فالذي قد واعد البنت الفلانية وجاء ليصلي يمكر .. نعم: هذا مكر .. وتعجب من قوله حين يسمع بهذا الكلام: "أنا آسف، لن أصلي بعد الآن" .. وهذا هو الغلط .. هذا هو العور في البصيرة .. فبدلا من أن تقول: "تبت إلى الله"، تقول هذا الكلام؟! .. سلم يا رب سلم .. "تصر على المعاصي وتصانع ببعض الطاعات. إن هذا لمكر"
فالمفترض والمتوقع حينما أقول لك هذا الكلام أن تقول: "لا للمعصية"، لا أن تقول: "لا للطاعة"!!
وفرق كبير بين الذي يعصي ثم يستغفر ويتوب ويندم ويعزم على ألا يعود، وبين من يمكر السيئات .. وفرق كبير بين من يعمل السوء بجهالة ثم يتوب من قريب، وبين الذي يدبر ويمكر ويصر ويستمر.
هذا هو الملحظ الخطير عند تأمل الآيات السابقة:
إنك تجد التفريق بين من يتورط في المعصية عند غلبة الشهوة مع الجهل وشدة الغفلة، وبين من يمكر للموضوع؛ فيحتال ويدبر ويحتاط ويتربص، ويبحث عن الشبهات، ويتعامى عن الضوابط، لذا كانت عقوبة الماكر أشد بكثير من عقوبة العاصي.
فلا تصانع بالطاعات وأنت مصر على المعاصي، ولا تقل: إذا لن أصلي حتى أنتهي عن المعاصي!! .. لأن هذا مكر! .. ولم لا تنتهي عن المعاصي وتستمر في الصلاة؟
اللهم تب على كل عاص مسلم يا رب ..
أُخَيّ
تأمل معي قصة أصحاب السبت لما مكروا على الله، واستخفوا بزواجره، فمسخوا قردة ..
قال الله تعالى: {واَسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُم بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} الأعراف {163} أي: واسأل يا محمد يهود المدينة عن أخبار أسلافهم وعن أمر القرية التي كانت بقرب البحر وعلى شاطئه، ماذا حل بهم لما عصوا أمر الله واصطادوا يوم السبت؟ ألم يمسخهم قردة وخنازير؟!
إن الاعتداء في السبت مجرد معصية أهون من كثير من معاصيهم؛ كقتل الأنبياء وطلب رؤية الله جهرة وطلب أصنام وعبادة العجل .. قطعا الاعتداء في السبت أخف من كل هذا بلا شك، وفي كل هذا لم يمسخوا، وإنما مسخوا باعتدائهم في السبت، وهذا يدلك على أن العقوبة لم تكن على مجرد المعصية، وإنما العقوبة على المكر.
قال الفيروزأبادي: "إن معصيتهم هذه كان فيها اسخفاف بالله، إذ حفروا الحفر يوم الجمعة، ونصبوا عليها الشباك، فوقعت فيها الأسماك يوم السبت وهم ينظرون، ثم جمعوا السمك يوم الأحد .. فتراهم قد خادعوا ومكروا بنصب الشباك يوم الجمعة، وجلسوا كالمستخفين بربهم يوم السبت يضعون أيديهم في جيوبهم، وهم ينظرون إلى السمك يتساقط في شباكهم التي نصبوها ويقولون: يا رب انظر كيف نحن مطيعون لك يوم السبت فلم نصنع شيئاً مطلقاً .. " وهيهات هيهات.
و تعال معي إلى سرد القصة لمزيد استفادة:
كان بنو إسرائيل قد طلبوا أن يُجعل لهم يوم راحة يتخذونه عيداً للعبادة، ولا يشتغلون فيه بشؤون المعاش، فجعل لهم السبت .. ثم كان الابتلاء ليربيهم الله، ويعلمهم كيف تقوى إرادتهم على المغريات والأطماع، وكيف ينهضون بعهودهم حين تصطدم بهذه المغريات والأطماع .. وكان ذلك ضروريا لبني إسرائيل الذين تخلخلت شخصياتهم وباعهم بسبب الذل الذي عاشوا فيه طويلاً، ولا بد من تحرير الإرادة بعد الذل والعبودية لتعتاد الصمود والثبات. فضلا على أن هذا ضروري لكل من يحملون دعوة الله ويؤهلون لأمانة الخلافة في الأرض .. وقد كان اختبار الإرادة والاستعلاء على الإغراء هو أول اختيار وُجِّه من قبلُ إلى آدم وحواء .. فلم يصمدا له، واستمعا لإغراء الشيطان بشجرة الخلد وملك لا يبلى، ثم ظل هو الاختبار الذي لابد أن تجتازه كل جماعة قبل أن يأذن الله لها بأمانة الاستخلاف في الأرض .. وإنما يختلف شكل الابتلاء ولا تتغير فحواه!
ولم يصمد فريق من بني إسرائيل – في هذه المرة – للابتلاء الذي كتبه الله عليهم بسبب ما تكرر قبل ذلك من فسوقهم وانحرافهم؛ فلقد جعلت الحيتان في يوم السبت تتراءى لهم على الساحل قريبة المأخذ سهلة الصيد. فتفوتهم وتفلت من أيديهم بسبب حرمة السبت التي قطعوها على أنفسهم! فإذا مضى السبت وجاءتهم أيام الحل لم يجدوا الحيتان قريبة ظاهرة كما يجدونها يوم الحرم! .. وهذا ما أُمِر رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يُذكّرهم به، ويذكُر ماذا فعلوا وماذا قالوا ..
¥