أما أنْ تجد عالماً يتكلم في حكم أنْ يضع أحدٌ من الناس يَدَهُ على أصل بئر زمزم فيعطي منه ما يشاء ويتملَّك ما يشاء ويمنع غيره من الوصول إليه ويجعله مكسباً يتكسَّب به, أو يتحاذق فيدَّعي أنه يحوز مالَ تجارته لمصالح المسجد؛ فهذا محالٌ لأنه لا يمكن أن يخطر ببال عالمٍ أنه يكون, ومن يتوهَّم أنَّ عالماً يمكن أنْ يذكر هذه المسألة فهو كمن يتوهَّم أنه سيجد في كتب العلم كلاماً على حكم إدخال الناس إلى جوف الكعبة بمقابل مالي يرجع إلى مصالح المسجد!
فهذه الأفعال كلُّها مناقَضَةٌ صريحةٌ للشريعة لا يصحُّ أن تُفْرَضَ مسائلَ علميةً يُحْكَى فيها وفاقٌ أو خلاف, شأنها شأنُ المسلَّمات البيِّنات.
فتبيَّنَ أنَّ هذا المشروع اعتداءٌ كبير على حرمة الشريعة, وإبطالٌ ممن تولاّه لوقفية هذه البئر الموقوفة بالشريعة, وهو كذلك غِشٌّ عظيم لوليِّ أمر المسلمين بنسبة هذا المشروع إلى اسمه.
بل إنك لو غضضتَ النظر عن أنَّ هذه البئر هي زمزم, وجعلتها عِدّاً موروداً مشتركاً في فلاةٍ لَمَا كان يَحِلُّ مثلُ هذا التصرُّف, بل لَكان غَصْباً لحقٍّ مُشترَك واختصاصاً ظالما؛ فإنه لو وضع أحدٌ يده على ماءٍ مُشترَك غَيْرِ موقوفٍ يحتاجه الناس فزعم أنه يجعل بعضه للمساجد ويبيعهم ما فَضَلَ منه لَكان عملُه هذا ظلماً وحراماً بالنصِّ والإجماع.
فكيف لو كان ذلك العِدُّ المورود موقوفاً قد سبَّله صاحبه؟ فإنَّ التحريم يكون حينئذٍ مضاعفاً ضعفين: حرمة الفعل نفسه, ثم حرمة تبديل شرط الواقف.
فكيف إذا كان الماء ماء زمزم؟ فإنَّ التحريم حينئذٍ مضاعفٌ أضعافاً كثيرة:
أولها: حرمة الفعل نفسه ولو كان الماءُ ماءً بالفلاة ولم يكن زمزم.
وثانيها: حرمة تبديل شرط الواقف الذي جعل البئر موقوفة ولم يأذن لأحدٍ أن يختصَّ بها دون أحد أو يجعلها كسباً أياً كان مصرفه.
وثالثها: حرمة تغيير الوضع الشرعي لأنَّ الواقف هنا ليس من الناس وإنما هو صاحب الشريعة نفسه فتبديل شرطه من تبديل الشريعة.
ورابعها: حرمة المسجد الحرام لأنَّ واضع اليد وضع يده على بئر في أرض المسجد الحرام.
وخامسها: حرمة البلد الحرام الذي أُحْدِثَ فيه هذا الحدث.
وسادسها: أنَّ هذا المشروع ـ إن لم يوفِّق الله وليَّ أمر المسلمين لإبطاله ومحاسبة مقترحه ـ سَنٌّ لسنةٍ سيئةٍ في الإسلام وفتحٌ لبابٍ من الفساد عريض, إذ إنَّ هذا المشروع هو أولُ متاجرةٍ رسمية ببئر زمزم, فكلُّ مَنْ يعمل بمثلِ ذلك بَعْدُ فإنَّ على مقترح المشروع ومنفِّذه والقادر على إبطاله وزره ووزر مَنْ عَمِل بمثله إلى يوم القيامه, ولا شكَّ أنَّ افتتاح أيِّ باب من أبواب الفساد فيه إثمُ الفساد نفسه وإثمُ الإمامةِ والأوَّليَّةِ فيه.
فتبيَّنَ أنَّ هذا العمل هو من التعدِّي الكبير, بل لا شكَّ أنه ـ بمجموع ما تقدَّم ـ من الإلحاد في الحرم الذي تَوَعَّد الله تعالى فاعله بالعذاب الأليم فقال تعالى: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج: 25] , فجعل الله تعالى مخالفة هذه التسوية التي فَرَضها, وتغييرها من الإلحاد في الحرم وتَوَعَّد عليه بالعذاب الأليم, وهو عذابٌ أليمٌ غير العقوبة التي تلحق بكلِّ ظالم, بل هو عقوبةٌ مضاعفة جعلها الله تعالى خاصةً بمن ألحد في حرم.
وأخرج البخاريُّ عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أبغض الناس إلى الله ثلاثة؛ مُلْحِدٌ في الحرم، ومبتغٍ في الإسلام سنة الجاهلية، ومُطَّلِبٌ دمَ امرئٍ بغير حق ليهريق دمه).
ومن المؤسف أنْ نقول إنَّ من أشار بهذا المشروع ونفَّذه قد غَشَّ وليَّ أمر المسمين في هذه البلاد غِشّاً كبيراً بنسبته إياه إلى اسمه, ذلك أنَّ قريشاً في شركها وجاهليتها, ثم سائر من تولَّى البلد الحرام على تعاقب الدول والأعصار لم يفعل أحدٌ منهم هذا الفعل بزمزم, فإنَّ هذه التجارة احتكارٌ لماءٍ مبارك, فيُسْتَغَلُّ إيمانُ الناس بما أنزل الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم وحرصهم الشديد على ماء زمزم ليُجعلَ ذلك وسيلةً للكسب فيمنعوا من تحصيل ما يؤمنون به إيماناً يتقرَّبون به إلى الله إلا بشرائه ممن أباح لنفسه أن يتملَّكه دونهم.
وليست هذه ـ البتةَ ـ شيمةُ ملوك المملكة , ولا هي سيرتهم , ولا هي ما ورثوا عن أوليهم , ولا ما تشرفوا به من حمل اسم "خادم الحرمين الشريفين".
فهذا المشروع مما يجب على أهل العلم والفضل النصيحةُ فيه لولي الأمر ليبطله في مهده ويحاسب من غَشَّه فيه لأنه لا يليق بمسلم فضلاً عن أن يليق بوليِّ أمر المسلمين.
فالله تعالى يقول ذاكراً كفار قريش: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [التوبة: 19] , فقد كانوا يفخرون على الناس بعمارة البيت وسدانته وبسقاية الحاج, وهي سقاية زمزم, فأبطل الله تعالى أن تكون هذه المَفَاخر ـ مجرَّدةً من الإيمان ـ عَدِيلةً للإيمان بالله واليوم الآخر والجهاد في سبيل الله, وأبى الله أنْ يستويَ أهلُ الشرك وأهل الإيمان.
فسقاية الحاج كانت مفخرةً من أعظم مَفَاخر قريش وهي يومئذٍ على شركها وجاهليتها, فكيف يُغَشُّ وَليُّ أمر المسلمين بأنْ يضافَ إلى اسمه مشروعٌ يقوم على احتكار ماءٍ مباركٍ جَعَلَ اللهُ الناسَ فيه سواءً, ثم إلجاء الحاجِّ إلى بذل مالٍ مقابل إعطائه مقداراً قليلاً منه؟!
فحَرِيٌّ بمن قَدِر من أهل العلم والفضل أنْ ينصحَ للإمام الذي ولاه الله أمرنا , وينبهه إلى ما في هذا المشروع من المخالفات الكبيرة للشريعة, فذلك من النصيحة لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم.
نسأل الله تعالى أن يوفِّق ولاة أمرنا إلى ما فيه الخير والرشاد في أمر الدين والدنيا, والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما.
¥