تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

الصبر [قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِالله وَاصْبِرُوا إِنَّ الأَرْضَ لله يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ] {الأعراف:128} وليس من الصبر في شيء تغيير المنهج الصحيح والانقلاب عليه استبطاء للنصر والتمكين.

فالواجب على المؤمنين عموماً وأهل الدعوة خصوصاً أن يجعلوا مشاعرهم وسلوكهم وتصوراتهم تجاه الأمة وقضاياها، وما يحصل لها من الألم والذل والهوان على أيدي أعدائها، وما يُرغب فيه من نصرها وعزها والتمكين لها .. خاضعة للنصوص لا أن نخضع النصوص لرغباتنا وأهوائنا، فإن سنن الله تعالى لا تتبدل.

ولو نظرنا إلى أشهر قضية للمسلمين مع أعدائهم في عصرنا، وأكثرها تناولاً في كتاباتهم وخطبهم ومحاضراتهم ومجالسهم هي قضية احتلال اليهود بمعونة النصارى لبيت المقدس قبل ستة عقود، وهي القضية التي عجز المسلمون عن نجدة إخوانهم فيها، فأدى ذلك إلى يأس كثير من الناس حتى ممن ينتسبون للعلم والدعوة من حلها، فركبوا مراكب التطبيع مع اليهود، أو على الأقل سكتوا عن هذه القضية لمللهم من تناولها.

ولو أنعمنا النظر في التاريخ لوجدنا أن الصليبيين احتلوا بيت المقدس زهاء تسعين سنة، وعطلت الصلاة في المسجد الأقصى، ورفع الصليبيون عليه صلبانهم، واتخذوه اصطبلات لخيولهم، وحظائر لخنازيرهم، وربما داخل كثيراً من القلوب آنذاك يأس من عودته للمسلمين، لكنه عاد بعد تسعين سنة من البناء والدعوة والجهاد، وكثير من الذين شاركوا في إعادة بناء صفوف الأمة آنذاك، ودعوة الناس إلى أن يعودوا إلى دينهم، ويتوبوا من ذنوبهم، وكانوا فاعلين في تحقق النصر العظيم الذي توج على يد صلاح الدين رحمه الله تعالى بطرد الصليبيين منه .. كثير منهم لم يذوقوا حلاوة هذا النصر، واخترمتهم المنايا قبل إدراكه، ومنهم الملك العادل نور الدين، وليس صلاح الدين إلا ثمرة من ثمراته.

السبب الثالث: التعرض للفتن ولما لا يطاق من البلاء، فكثير من المفتونين -إن لم يكن كلهم- ما كانت فتنتهم وتغير مناهجهم، وانقلابهم على إخوانهم إلا بعد أن نالتهم فتنة الاعتقال والإهانة والتهديد أو التعذيب، ومنهم من صبر سنوات طويلة لكنهم انهاروا في النهاية، فخرجوا من السجون بقلوب غير القلوب التي دخلوا بها.

إن كثيراً من المتحمسين لدين الله تعالى يزعجهم حال الأمة وضعفها، وانتهاك الملأ منها للحرمات، وتعطيل الشرائع، والصد عن دين الله تعالى، فلا يتحلون بالصبر والحكمة في مواجهة هذا الواقع الأليم، ولا يصدرون عن العلماء الربانيين، بل منهم من يطعنون فيهم متهمين إياهم بالمداهنة والجبن والضعف، ويظنون أنهم أقدر من العلماء على مواجهة الملأ من أقوامهم، وأن الناس ينصرونهم، فيعرضون أنفسهم لما لا يطيقون من البلاء، فيؤدي ذلك بهم إلى الانتكاس، والانقلاب على المنهج الصحيح.

والله تعالى رحيم بعباده، عليم بقدرتهم وطاقتهم، فلم يكلفهم ما لا يطيقون [لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا] {البقرة:286} [فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ] {التغابن:16} وتغيير المنكر كان فيه تدرج من اليد إلى اللسان إلى القلب حسب القدرة، وأباح الله تعالى النطق بكلمة الكفر لدفع البلاء، ولحماية المؤمن نفسه من الافتتان، مع أن كلمة الكفر أسوأ شيء يقال وهي سبب للعذاب.

وقد روى حذيفة وهو أعلم الصحابة بالفتن وأسباب النجاة منها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: لاَ ينبغي لِمُسْلِمٍ أَنْ يُذِلَّ نَفْسَهُ، قِيلَ: وَكَيْفَ يُذِلُّ نَفْسَهُ؟ قال: يَتَعَرَّضُ مِنَ الْبَلاَءِ لِمَا لاَ يُطِيقُ ([6])

والمؤمن مطالب بإصلاح نفسه، ثم تعدية هذا الصلاح إلى غيره، فإذا كان سعيه في إصلاح غيره يعود على نفسه بالفساد كف عن ذلك .. وهذا يتصور وقوعه حال الفتن، وغلبة الأهواء، وقوة أهل الفساد، وتمكنهم من البلاد والعباد؛ ولذا جاء الأمر بالعزلة حال غربة الدين، وكثرة الفتن؛ للحفاظ على النفس من التردي والتبديل والانقلاب، وعلى هذه الأحوال تحمل الأحاديث والآثار، ومنها:

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير