تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

وأعرف واحداً من النابهين في العلم خالف في مسائل ولم يكن من أهل البلد الذي عاش طيلة عمره فيه، فكأن بعض الحاسدين له اقتنصوا مخالفته فشنعوا عليه وضايقوه حتى فارقهم ورحل عن بلادهم، فتلقفه آخرون، وأحسنوا احتواءه، ووضعوه في مقامه اللائق به علمياً، وسخروا قوته العلمية في تشريع كثير من الرخص على وفق منهجهم، ونقد المنهج السابق بحجة التشدد. ولا شك في أنه يلام في ذلك، لكن النفس البشرية تضعف أمام المضايقات، وتستعبد لإحسان الآخرين ولو كانوا مخالفين في المنهج الصحيح.

ولو تأملنا السنة النبوية لوجدناها مليئة بحفظ مكانة الشخص ولو أخطأ، وعدم الإسراف في الإنكار عليه بتنقيصه والإزراء به، وفرق بين التعرض لشخصه بالهمز واللمز والتعرض لقوله بالتخطئة والنقد، وكثير من الناقدين لا يفرقون بينهما، والنبي صلى الله عليه وسلم لما أقام الحد على الشارب فسبه بعض القوم قال صلى الله عليه وسلم رداً عليهم: لَا تَقُولُوا هَكَذَا، لَا تُعِينُوا عليه الشَّيْطَانَ، وفي رواية: لَا تَكُونُوا عَوْنَ الشَّيْطَانِ على أَخِيكُمْ [20] ( http://www.benaa.com:8686/Read.asp?PID=1874270&Sec=0#_ftn20)

وكان من هدي النبي صلى الله عليه وسلم إنزال الناس منازلهم [21] ( http://www.benaa.com:8686/Read.asp?PID=1874270&Sec=0#_ftn21)، ووضعهم في المقام اللائق بهم، وقال في سعد بن معاذ رضي الله عنه: قوموا إلى سيدكم، [22] ( http://www.benaa.com:8686/Read.asp?PID=1874270&Sec=0#_ftn22) وأنزل سيد قريش أبا سفيان منزلته فقال في الفتح: من دخل دار أبي سفيان فهو آمن. [23] ( http://www.benaa.com:8686/Read.asp?PID=1874270&Sec=0#_ftn23) فالنابهون والمميزون وذوو الشأن ليسوا كغيرهم، وينبغي إعطاؤهم حقهم من التوقير والاحترام والاهتمام؛ لأن في تأليفهم خدمة للدعوة وإعزاز للدين بهم.

ومنهج النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الباب أنه كان يعامل كل أحد بحسب إيمانه وقوته في الحق:

فهجر الثلاثة المخلفين؛ لما ظهر من صدقهم في عدم اختلاق الأعذار؛ وذلك لتربيتهم، وظهر صدق توبة كعب رضي الله عنه في رفضه لعرض ملك غسان .. فلا تكون هذه المعاملة قاعدة ثابتة، ولا تصلح مع كل أحد.

ولم يول خالد بن الوليد رضي الله عنه في أول إسلامه مع شهرته في القيادة، وجعله جنديا تحت قادة هو أولى بالقيادة منهم من الجهة العسكرية، وما أرى ذلك -والله أعلم- إلا تربية له؛ ليكون إسلامه لله تعالى ولا حظ فيه لشيء من الدنيا والهوى ... فلما صح ذلك من خالد رضي الله عنه ولم يتضعضع أنزله النبي عليه الصلاة والسلام منزلته اللائقة به وولاه وقال: سيف من سيوف الله [24] ( http://www.benaa.com:8686/Read.asp?PID=1874270&Sec=0#_ftn24)، ولما أخطأ تبرأ من خطئه (وقال اللهم أبرأ إليك مما فعل خالد) [25] ( http://www.benaa.com:8686/Read.asp?PID=1874270&Sec=0#_ftn25) لكنه لم يهدره ولم يعزله. وهكذا فعل الصديق رضي الله عنه، فلما تولى عمر خشي أن يفتن الناس به فعزله ولم يهدر منزلته بل أمر أبا عبيدة أن يستشيره في الحرب.

وأعطى المؤلفة قلوبهم وترك الأنصار، والأنصار أسلموا ولم يريدوا من الدنيا شيئا، لأن النبي عليه الصلاة والسلام لما أسلموا ما كان عنده شيء، بل خاطروا بدنياهم لأجله، وهذا من أبين الأدلة على تمكن الإيمان من قلوبهم، فعاملهم بحسب إيمانهم.

والمخطئون في معاملة من أخطأ من النابهين على طرفين: فطرف يداهنهم في دين الله تعالى لإرضائهم، ويوافقهم في بعض باطلهم بزعم أن يقبلوا الحق الذي عنده، وهي طريقة من يظنون أنهم من أهل التيسير، وهم في الحقيقة أهل التمييع والمداهنة في دين الله تعالى مع الكفار والمنافقين والمنحرفين، ولما ساومت قريش رسول الله على دينه أنزل الله تعالى سورة الكافرون؛ ليعلم الناس أنه لا مساومة على دين الله تعالى، وحسم النبي صلى الله عليه وسلم هذا الأمر فقال: فَمَاذَا تَظُنُّ قُرَيْشٌ، والله أني لاَ أَزَالُ أُجَاهِدُهُمْ على الذي بعثني الله له حتى يُظْهِرَهُ الله له أو تَنْفَرِدَ هذه السَّالِفَةُ [26] ( http://www.benaa.com:8686/Read.asp?PID=1874270&Sec=0#_ftn26) يعني: رقبته الشريفة.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير