تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

- إن من أعظم المتع التي عاشها الصحابة، تلك الفصاحة، والبراعة، والنجابة، التي كانوا يسمعونها من سيد الفصحاء، وإمام البرعاء، وأبين العرب العرباء، كان إذا تكلم ملك المشاعر، واستولى على الضمائر، واستمال السرائر، فلا يريدون بعده كلام خطيب ولا شاعر، إذا نطق عليه الصلاة والسلام وتدفق، فكأنه الفجر أشرق، والماء ترقرق، والنور في الأرواح ترفق. إن من النعيم، عند ذاك الجيل العظيم، سماع ذلك النبي الكريم، في منطق سليم، وصوت رخيم، وقول قويم، ونهج مستقيم.

- ثم درج خطباء الأمة على منواله، وسبكوا أقوالهم على أقواله، فمن مقلّ ومكثر، ومن مؤثر ومتأثر، فأحسن الخطباء من جعل القرآن معينه، وملأ بنور الحديث عينه، وجعل البيان خدينه، ثم أكثر من التدريب، وأدمن التجريب، وأخذ من كل فن بنصيب، فترى له من البراعة، ومن الجرأة والشجاعة، ما يخلب ألباب الجماعة، جمالاً في بيان، وحسناً في إتقان، مع عذوبة لسان وثبات جنان.

غير أن البلاء، يأتي من الأغبياء، المعدودين في الخطباء، فهم كالغيم في الصحو، وكاللحن في النحو، عبارات من حجاب البيان سافرة، وجمل متنافرة. وتركيب غريب، ليس عليه من سلطان الإبداع رقيب، همّ أحدهم أن يقول، ولو أخطأ في النقول، وعاث في العقول، فمنع هؤلاء من الخطابة إصابة، حتى يراجع كل منهم حسابه. فليست المنابر أسواق باعة، ولا أحواش زراعة، ولا ورش صناعة، إنما المنابر مواضع طاعة، تهذب بها الأجيال، وتصقل بها عقول الرجال.

ومنطق كضياء الشمس تحسبه - من حسنه سحر هاروت وماروت

يدب في الجسم مثل البرء لو نُظِمت - ألفاظه؛ قلتَ: هذا عقد ياقوت

- فهذب لسانك، وجوّد بيانك، ودرّب جنانك، وأطلق في الفصاحة عنانك، لتكون الخطيب المسدّد، والمتكلم المؤيد. وحذار من ترداد الكلام، فإنه يتحول إلى ركام، ويصبح الخطيب أقبح في العين من الظلام، وإياك والتقعر والغرابة، فإنها من عيوب الخطابة، ولا تكرر العبارة، ولا تكثر الإشارة، ولا تقحم نفسك في فنون أهل الاختصاص، ولا تجرح الأشخاص. واخلط الترغيب بالترهيب، والوعظ بالتأديب، وتحبب إلى السامعين بالطيّب من الكلام، ولا تتعرض للشتم والملام، وتألف القلوب، وذكرهم برحمة علاّم الغيوب. وتخولهم بالموعظة لتكون لقلوبهم موقظة، وتحدث فيما يحتاجون إليه من مسائل، وما يهمهم من فضائل، وكن لطيفاً مع الناس، كالطبيب الآس.

- واجعل إمامك في الخطابة رسول البيان، صاحب القرآن، سيد ولد عدنان. فقد كان الجذع يحنّ لكلامه، ويئن من كثرة شوقه وهيامه، وكانت الدموع من وعظه تتحدر، والقلوب تتفطّر، والنفوس تتحسر، هذا إذا أنذر وحذر، أما إذا ذكرهم بمغفرة الغفور، فهناك تسبح النفوس في صرح ممرّد من السرور، وفي جدول من الحبور، فيمد كلامه نور الفطرة، فالكل نور على نور.

هذا الكلام الذي ما قاله أحد - ولا تلا مثله في الجمع سحبان

عليه من حلل الأنوار أردية - فكل قلب من الأشواق نشوان

يصدع الصخر في زجر وموعظة - وفي البشارة روض فيه ريحان

- أيها الخطباء كونوا أبطالاً، ورصّعوا من الحكمة أقوالاً، ودبّجوا من الفصاحة أمثالاً، وانفروا خفافاً وثقالاً، وفقكم الله تعالى.

د. عائض القرني

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير