وذكر القرطبي وعزاه للخطيب عن أبي عبد الملك مولى أم مسكين بنت عاصم بن عمر بن الخطاب قال: أرسلتني مولاتي إلى أبي هريرة فجاء معي، فلما قام بالباب قال: أندر؟ قالت: أندرون [24].
وقال القرطبي: وذكر عن أحمد بن صالح قال: كان الدراوردي من أهل أصبهان نزل المدينة، فكان يقول للرجل إذا أراد أن يدخل: (أندرون) فلقبه أهل المدينة «الدراوردي» [25] و (أندرون) كلمة فارسية تعني: «داخل، باطن» ونحو ذلك.
وقال حبيب بن أبي ثابت: «كنا نسمي أبا صالح: [26] «دزوزن» وهو بالفارسية: كتاب» [27].
فهذه الآثار تدل على أن السلف كانوا يتكلمون في أحيان قليلة بالكلمة من الأعجمية.
قال أبو العباس ابن تيمية رحمه الله: «ونُقِل عن طائفة منهم أنهم كانوا يتكلمون بالكلمة بعد الكلمة من العجمية.
وفي الجملة: فالكلمة بعد الكلمة من العجمية أمرها قريب، وأكثر ما يفعلون ذلك إما لكون المخاطب أعجمياً، أو قد اعتاد العجمية، يريدون تقريب الأفهام عليه» [28].
2 - أن يكثر ذلك مع عدم الحاجة؛ فهذا ينبغي أن يُجتنب.
قال الشافعي رحمه الله: «سمَّى الله الطالبين من فضله في الشراء والبيع تجاراً، ولم تزل العرب تسميهم التجار ثم سماهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بما سمى الله به من التجارة بلسان العرب، والسماسرة اسم من أسماء العجم، فلا نحب أن يسمى رجل يعرف العربية تاجراً، إلا تاجراً. ولا ينطق بالعربية فيسمي شيئاً بأعجمية، وذلك أن اللسان الذي اختاره الله عز وجل لسان العرب، فأنزل به كتابه العزيز وجعله لسان خاتم أنبيائه محمد صلى الله عليه وسلم، ولهذا نقول: ينبغي لكل أحد يقدر على تعلم العربية أن يتعلمها لأنها اللسان الأوْلى بأن يكون مرغوباً فيه من غير أن يحرم على أحد أن ينطق بأعجمية» [29].
قال شيخ الإسلام رحمه الله: «فقد كره الشافعي لمن يعرف العربية أن يسمي بغيرها، وأن يتكلم بها خالطاً لها بالعجمية، وهذا الذي قاله الأئمة مأثور عن
الصحابة والتابعين» [30].
النوع الثاني: من القسم الأول [31]:
وهو ما خالط كلام العرب ودخل في لغتهم حتى صار بمنزلة مفرداتها الأصيلة، وهو المُعرَّب وما في حكمه. وهو نوعان:
أ - ما استعملته العرب قبل اختلاط ألسنتها [32].
فهذا معدود في حكم كلام العرب ولا غضاضة في استعماله [33].
ب - ما دخل على اللغة بعد اختلاط الألسنة، وقد وقعت الجمهرة من ذلك في القرنين الأخيرين؛ ذلك أن أكثر بلاد المسلمين وقعت تحت سيطرة أعدائها، إضافة إلى أن الأمة صارت تستقبل من غيرها أشياء كثيرة من الثقافة والصناعة وغير ذلك فتستقر اللفظة في الأمة غالباً بثوبها الذي جاءت به من حيث التسمية وغيرها.
فصار الناس ينطقون بتلك الألفاظ الأعجمية نطقهم بالعربية دون تنبه أو تمييز لأصلها؛ فهم حين يتلفظون بها لا يقصدون التكلم بالأعجمية سواء كانوا عالمين بأصلها أم لم يكونوا كذلك.
وفي هذه الحال لا يُعد من صدر منه مثل ذلك محاكياً للأعاجم أو متشبهاً بهم، ومن ثَمَّ فالحرج الشرعي مرتفع عنه.
لكن ثمة أمر آخر ينبغي مراعاته، وهو أن هذه الكلمات الدخيلة على اللغة ينبغي استبدالها بالألفاظ التي تقوم مقامها في العربية، كما ينبغي أن يُنبَّه الناس إلى أصل تلك المفردات ليكون ذلك معيناً على التخلص منها؛ ذلك أنها تزاحم مفردات العربية وإذا كثرت فإنها تفسد اللغة من أساسها وتقوضها كما لا يخفى.
* فائدة: من عادة العرب إذا نطقوا بلفظة أعجمية أنهم يلقونها على طريقتهم في النطق من غير تكلف، ودون ترقيق في اللفظ فضلاً عن نبرة الصوت، وقاعدتهم في ذلك «أعجمي فالعب به» كما قرر ذلك بعض المتقدمين من أئمة اللغة، وهذا على خلاف ما شاع في أوساط المثقفين من تمحُّل في إخراج اللفظة مصحوبة بنبرتها الأعجمية.
القسم الثاني: ما كان من قبيل التراكيب والجُمل وليس من قبيل اللفظة المفردة، وهو نوعان:
الأول: ما دعت إليه الحاجة فهذا لا بأس به كأن يكون المخاطب لا يعرف العربية. لكن ينبغي أن تتضافر الجهود على بث العربية ودعمها بكل وسيلة ممكنة حتى تكون هي لغة التخاطب بين العرب وغيرهم كما كان عليه الأمر في الأزمنة التي كانت فيها القوة والغلبة للمسلمين.
¥