تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

قيل: هذه النكتة التى لأجلها جوَّزَ من جوَّز بيعه، وجعل ذلك حقاً مِن حقوق أرضه، فَمَلَكَ المعاوضة عليه وحدَه كما يملِكُ المعاوضة عليه مع الأرض، فُيقال: حقُّ أرضه فى الانتفاع لا فى ملك العين التى أودعها اللَّه فيها بوصف الاشتراك، وجعل حقَّه فى تقديم الانتفاع على غيره فى التحجر والمعاوضة، فهذا القولُ هو الذى تقتضيه قواعدُ الشرع وحكمته واشتماله على مصالح العالم، وعلى هذا فإذا دخل غيره بغير إذنه، فأخذ منه شيئاً، لأنه مباح فى الأصل، فأشبه ما لو عشَّشَ فى أرضه طائر، أو حصل فيها ظبى، أو نضب ماؤها عن سمك، فدخل إليه، فأخذه.

فإن قيل: فهل له منعُه مِن دخول ملكه، وهل يجوزُ دخولُه فى ملكه بغير إذنه؟

قيل: قد قال بعضُ أصحابنا: لا يجوزُ له دخولُ ملكه لأخذ ذلك بغير إذنه، وهذا لا أصل له فى كلام الشارع، ولا فى كلام الإمام أحمد، بل قد نص أحمد على جواز الرعى فى أرضٍ غيرِ مباحة مع أن الأرض ليست مملوكة له ولا مستأجرة ودخولُها لغير الرعى ممنوع منه. فالصوابُ أنه يجوز له دخولُها لأخذ ما له أخذُه، وقد يتعذَّرُ عليه غالباً استئذان مالكها، ويكون قد احتاج إلى الشرب وسقى بهائمه ورعى الكلأ، ومالك الأرض غائب، فلو منعناه من دخولها إلا بإذنه كان فى ذلك إضرار ببهائمه.

وأيضاً فإنه لا فائدة لهذا الإذن، لأنه ليس لصاحب الأرض منعُه مِن الدخول، بل يجبُ عليه تمكينُه، فغايةُ ما يقدر أنه لم يأذن له، وهذا حرامٌ عليه شرعاً لا يَحِلُّ له منعُه من الدخول، فلا فائدة فى توقف دخوله على الإذن.

وأيضاً فإنه إذا لم يتمكن مِن أخذ حقِّه الذى جعله له الشارعُ إلا بالدخول فهو مأذون فيه شرعاً، بل لو كان دخولُه بغير إذنه لِغيرة على حريمه وعلى أهله، فلا يجوزُ له الدخولُ بغير إذن، فأما إذا كان فى الصحراء، أو دار فيها بئر ولا أنيسَ بها، فله الدخولُ بإذنٍ وغيرِه، وقد قال اللَّهُ تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتَاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ} [النور: 29]، وهذا الدخولُ الذى رفع عنه الجناح هو الدخولُ بلا إذن، فإنه قد منعهم قبل مِن الدخول لغير بيوتهم حتى يستأنِسُوا ويُسلِّموا على أهلها، والاستئناس هنا: الاستئنذان، وهى فى قراءة بعضِ السلف كذلك، ثم رفع عنهم الجُناح فى دخول البيوت غير المسكونة لأخذ متاعهم، فدلَّ ذلك على جواز الدخول إلى بيت غيره وأرضه غيرِ المسكونة، لأخذ حقِّه من الماء والكلأ، فهذا ظاهرُ القرآن، وهُوَ مقتضى نص أحمد وباللَّه التوفيق.

فإن قيل: فما تقولُون فى بيع البئر والعين نفسها: هل يجوزُ؟ قال الإمام أحمد: إنما نهى عن بيع فضل ماء البئر والعيون فى قراره، ويجوز بيع البئر نفسِها والعين، ومشتريها أحقُّ بمائها، وهذا الذى قاله الإمام أحمد هو الذى دلّت عليه السنة، فإن النبىَّ صلى الله عليه وسلم قال: ((مَنْ يَشْتَرى بِئْرَ رُومَةَ يُوَسعُ بِهَا عَلَى المُسلِمينَ وَلَهُ الجَنَّةُ)) أو كما قال، فاشتراها عثمانُ بن عفان رضى اللَّه عنه مِن يهودى بأمرِ النبىِّ صلى الله عليه وسلم وَسبَّلَها لِلمُسلمِينَ وكان اليهودىُّ يبيعُ ماءَها. وفى الحديث أن عثمان رضى اللَّه عنه اشترى منه نصفها باثنى عشر ألفاً، ثم قال لليهودى اختر إما أن تأخُذَهَا يوماً وآخذَهَا يوماً، وإما أنْ تَنْصِبَ لك عليها دلواً، وأَنْصِبَ عليها دلواً، فاختار يوماً ويوماً، فكان الناسُ يستقون منها فى يوم عثمان لِليومين، فقال اليهودىُّ: أفسدتَ علىَّ بئرى، فاشترى باقيها، فاشتراه بثمانية آلاف، فكان فى هذا حجةٌ على صحة بيعِ البئر وجوازِ شرائها، وتسبيلها، وصحةِ بيع ما يُسقى منها، وجواز قسمةِ الماء بالمهايأة، وعلى كون المالك أحقَّ بمائها، وجواز قسمة ما فيه حق وليس بمملوك.

فإن قيل: فإذا كان الماءُ عندكم لا يملك، ولكل واحد أن يستقى منه حاجَته، فكيف أمكن اليهودى تحجُّرَه حتى اشترى عثمانُ البئرَ وسبَّلَها، فإن قلتم: اشترى نفسَ البئر وكانت مملوكةً، ودخل الماءُ تبعاً، أشكل عليكم مِن وجه آخر وهو أنكم قررتم أنه يجوزُ للرجل دخولُ أرض غيره لأخذ الكلأ والماء، وقضيةُ بئر اليهودى تدل على أحد أمرين ولا بُد، إما ملك الماء بملك قراره، وإما على أنه لا يجوز دخولُ الأرض لأخذ ما فيها من المباح إلا بإذن مالكها.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير