تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

وَلَمَّا جَاء مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} [الأعراف: 143]، يقتضى أن الله هو المكلم، فكما يمتنع أن يقال: هو متكلم بكلام قائم بغيره، يمتنع أن يقال: كلم بكلام قائم بغيره. فهذه خمسة أوجه:

أحدها: أنه يلزم الجهمية على قولهم أن يكون كل كلام خلقه الله كلامًا له؛ إذ لا معنى لكون القرآن كلام الله إلا كونه خلقه، وكل من فعل كلاما ولو في غيره كان متكلمًا به عندهم، وليس للكلام عندهم مدلول يقوم بذات الرب ـ تعالى ـ لو كان مدلول [قائمًا] يدل لكونه خلق صوتًا في محل والدليل يجب طرده، فيجب أن يكون كل صوت يخلقه له كذلك، وهم يجوزون أن يكون الصوت المخلوق على جميع الصفات، فلا يبقى فرق بين الصوت الذي هو كلام الله ـ تعالى ـ على قولهم والصوت الذي هو ليس بكلام.

الثاني: أن الصفة إذا قامت بمحل كالعلم والقدرة والكلام والحركة عاد حكمها إلى ذلك المحل ولا يعود حكمها إلى غيره.

الثالث: أن يشتق منه المصدر واسم الفاعل والصفة المشبهة به / ونحو ذلك ولا يشتق ذلك لغيره، وهذا كله بين ظاهر وهو ما يبين قول السلف والأئمة أن من قال: إن الله خلق كلامًا في غيره لزمه أن يكون حكم التكلم عائدًا إلى ذلك المحل لا إلى الله.

الرابع: أن الله أكد تكليم موسى بالمصدر فقال: {تَكْلِيمًا}. قال غير واحد من العلماء: التوكيد بالمصدر ينفي المجاز، لئلا يظن أنه أرسل إليه رسولا أو كتب إليه كتابًا، بل كلمه منه إليه.

والخامس: أن الله فضل موسى بتكليمه إياه على غيره ممن لم يكلمه وقال: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا} الآية [الشورى: 51]، فكان تكليم موسى من وراء الحجاب، وقال: {قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاَتِي وَبِكَلاَمِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُن مِّنَ الشَّاكِرِينَ} [الأعراف: 144]، وقال: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ} إلى قوله: {وَكَلَّمَ اللّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء: 163، 164]، والوحي هو ما نزله الله على قلوب الأنبياء بلا واسطة، فلو كان تكليمه لموسى إنما هو صوت خلقه في الهواء لكان وحى الأنبياء أفضل منه؛ لأن أولئك عرفوا المعنى المقصود بلا واسطة. وموسى إنما عرفه بواسطة؛ ولهذا كان غلاة الجهمية من الاتحادية ونحوهم يدعون أن ما يحصل لهم من الإلهام أفضل مما حصل لموسى بن عمران، وهذا من أعظم الكفر باتفاق المسلمين.

/ولما فهم السلف حقيقة مذهب هؤلاء، وأنه يقتضي تعطيل الرسالة، فإن الرسل إنما بعثوا ليبلغوا كلام الله، بل يقتضى تعطيل التوحيد، فإن من لا يتكلم ولا يقوم به علم ولا حياة هو كالموات، بل من لا تقوم به الصفات فهو عدم محض؛ إذ ذات لا صفة لها إنما يمكن تقديرها في الذهن لا في الخارج، كتقدير وجود مطلق لا يتعين ولا يتخصص.

فكان قول هؤلاء مضاهيًا لقول: [المتفلسفة الدهرية]، الذين يجعلون وجود الرب وجودًا مطلقًا بشرط الإطلاق لا صفة له. وقد علم أن المطلق بشرط الإطلاق لا يوجد إلا في الذهن. وهؤلاء الدهرية ينكرون: أيضًا ـ حقيقة تكليمه لموسى ويقولون: إنما هو فيض فاض عليه من العقل الفعال، وهكذا يقولون في الوحي إلى جميع الأنبياء، وحقيقة قولهم: إن القرآن قول البشر، لكنه صدر عن نفس صافية شريفة. وإذا كانت المعتزلة خيرًا من هؤلاء، وقد كفر السلف من يقول بقولهم، فكيف هؤلاء؟!.

وكلام السلف والأئمة في مثل هؤلاء لا يحصى. قال حرب بن إسماعيل الكرماني: سمعت إسحاق بن راهويه يقول: ليس بين أهل العلم اختلاف أن القرآن كلام الله وليس بمخلوق، وكيف يكون شيء من الرب ـ عز ذكره ـ مخلوقاً، ولو كان كما قالوا لزمهم أن يقولوا: علم الله وقدرته ومشيئته مخلوقة، فإن قالوا ذلك لزمهم أن يقولوا: كان الله ـ /تبارك اسمه ـ ولا علم ولا قدرة ولا مشيئة، وهو الكفر المحض الواضح، لم يزل الله عالمًا متكلمًا له المشيئة والقدرة في خلقه، والقرآن كلام الله وليس بمخلوق، فمن زعم أنه مخلوق فهو كافر.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير