تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

وأما أحمد بن حنبل، فكلامه في مثل هذا مشهور متواتر، وهو الذي اشتهر بمحنة هؤلاء الجهمية؛ فإنهم أظهروا القول بإنكار صفات الله - تعالى - وحقائق أسمائه، وأن القرآن مخلوق،حتى صار حقيقة قولهم تعطيل الخالق - سبحانه وتعالى - ودعوا الناس إلى ذلك، وعاقبوا من لم يجبهم، إما بالقتل، وإما بقطع الرزق، وإما بالعزل عن الولاية، وإما بالحبس أو بالضرب، وكفروا من خالفهم، فثبت الله - تعالى - الإمام أحمد حتى أخمد الله به باطلهم، ونصر أهل الإيمان والسنة عليهم، وأذلهم بعد العز، وأخملهم بعد الشهرة، واشتهر عند خواص الأمة وعوامها أن القرآن كلام / الله غير مخلوق، وإطلاق القول أن من قال: إنه مخلوق، فقد كفر.

وأما إطلاق القول بأن الله لم يكلم موسى، فهذه مناقضة لنص القرآن، فهو أعظم من القول بأن القرآن مخلوق، وهذا بلا ريب يستتاب، فإن تاب وإلا قتل، فإنه أنكر نص القرآن، وبذلك أفتى الأئمة والسلف في مثله، والذي يقول: القرآن مخلوق هو في المعنى موافق له، فلذلك كفره السلف.

قال البخاري في كتاب [خلق الأفعال]: قال سفيان الثوري: من قال: القرآن مخلوق، فهو كافر. قال: وقال عبد الله بن المبارك: من قال: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} [طه: 14] مخلوق، فهو كافر، ولا ينبغي لمخلوق أن يقول ذلك، قال: وقال ابن المبارك: لا نقول كما قالت الجهمية: إنه في الأرض هاهنا، بل على العرش استوى. وقيل له: كيف نعرف ربنا؟ قال: فوق سمواته على عرشه، بائن من خلقه.

وقال: من قال: [لا إله إلا الله] مخلوق، فهو كافر، وإنا نحكي كلام اليهود والنصارى ولا نستطيع أن نحكي كلام الجهمية. قال: وقال على بن عاصم: ما الذين قالوا: إن لله ولدًا أكفر من الذين قالوا: إن الله لا يتكلم.

قال البخاري: وكان إسماعيل بن أبي إدريس يسميهم زنادقة العراق. / وقيل له: سمعت: أحدًا يقول: القرآن مخلوق فقال: هؤلاء الزنادقة. قال: وقال أبو الوليد سمعت يحيى بن سعيد -وذكر له أن قومًا يقولون: القرآن مخلوق ـ فقال: كيف يصنعون بـ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] كيف يصنعون بقوله: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا}؟ قال: وقال أبو عبيد القاسم بن سلام: نظرت في كلام اليهود والمجوس فما رأيت قومًا أضل في كفرهم منهم، وإني لأستجهل من لا يكفرهم إلا من لا يعرف كفرهم. قال: وقال سليمان بن داود الهاشمي: من قال: القرآن مخلوق، فهو كافر، وإن كان القرآن مخلوقًا ـ كما زعموا ـ فلم صار فرعون أولى بأن يخلد في النار إذ قال: {فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} [النازعات: 24]؟ وزعموا أن هذا مخلوق، والذي قال: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} [طه: 14] هذا ـ أيضًا ـ قد ادعى ما ادعى فرعون، فلم صار فرعون أولى بأن يخلد في النار من هذا؟ وكلاهما عنده مخلوق، فأخبر بذلك أبو عبيد، فاستحسنه وأعجبه.

ومعنى كلام هؤلاء السلف ـ رضي الله عنهم ـ: أن من قال: إن كلام الله مخلوق خلقه في الشجرة أو غيرها ـ كما قال هذا الجهمي المعتزلي المسؤول عنه ــ كان حقيقة قوله: إن الشجرة هي التي قالت لموسى: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي} ومن قال: هذا مخلوق، قال ذلك. فهذا المخلوق عنده كفرعون الذي قال: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} كلاهما مخلوق، وكلاهما قال ذلك. فإن كان قول فرعون كفرًا فقول هؤلاء ـ أيضًا ـ كفر.

/ ولا ريب أن قول هؤلاء يؤول إلى قول فرعون، وإن كانوا لا يفهمون ذلك؛ فإن فرعون كذب موسى فيما أخبر به؛ من أن ربه هو الأعلى، وأنه كلمه، كما قال تعالى: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَّعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا}

[غافر: 36، 37] وهو قد كذب موسى في أن الله كلمه.

ولكن هؤلاء يقولون: إذا خلق كلاماً في غيره صار هو المتكلم به، وذلك باطل وضلال من وجوه كثيرة:

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير