تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

/ولما فهم السلف حقيقة مذهب هؤلاء، وأنه يقتضي تعطيل الرسالة، فإن الرسل إنما بعثوا ليبلغوا كلام الله، بل يقتضى تعطيل التوحيد، فإن من لا يتكلم ولا يقوم به علم ولا حياة هو كالموات، بل من لا تقوم به الصفات فهو عدم محض؛ إذ ذات لا صفة لها إنما يمكن تقديرها في الذهن لا في الخارج، كتقدير وجود مطلق لا يتعين ولا يتخصص.

فكان قول هؤلاء مضاهيًا لقول: [المتفلسفة الدهرية]، الذين يجعلون وجود الرب وجودًا مطلقًا بشرط الإطلاق لا صفة له. وقد علم أن المطلق بشرط الإطلاق لا يوجد إلا في الذهن. وهؤلاء الدهرية ينكرون: أيضًا ـ حقيقة تكليمه لموسى ويقولون: إنما هو فيض فاض عليه من العقل الفعال، وهكذا يقولون في الوحي إلى جميع الأنبياء، وحقيقة قولهم: إن القرآن قول البشر، لكنه صدر عن نفس صافية شريفة. وإذا كانت المعتزلة خيرًا من هؤلاء، وقد كفر السلف من يقول بقولهم، فكيف هؤلاء؟!.

وكلام السلف والأئمة في مثل هؤلاء لا يحصى. قال حرب بن إسماعيل الكرماني: سمعت إسحاق بن راهويه يقول: ليس بين أهل العلم اختلاف أن القرآن كلام الله وليس بمخلوق، وكيف يكون شيء من الرب ـ عز ذكره ـ مخلوقاً، ولو كان كما قالوا لزمهم أن يقولوا: علم الله وقدرته ومشيئته مخلوقة، فإن قالوا ذلك لزمهم أن يقولوا: كان الله ـ /تبارك اسمه ـ ولا علم ولا قدرة ولا مشيئة، وهو الكفر المحض الواضح، لم يزل الله عالمًا متكلمًا له المشيئة والقدرة في خلقه، والقرآن كلام الله وليس بمخلوق، فمن زعم أنه مخلوق فهو كافر.

وقال وَكِيع بن الجراح: من زعم أن القرآن مخلوق فقد زعم أن شيئًا من الله مخلوق. فقيل له: من أين قلت هذا؟ قال: لأن الله يقول: {وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ} [السجدة: 13]، ولا يكون من الله شيء مخلوق. وهذا القول قاله غير واحد من السلف.

وقال أحمد بن حنبل: كلام الله من الله ليس ببائن منه، وهذا معنى قول السلف: القرآن كلام الله، منه بدأ، ومنه خرج، وإليه يعود كما في الحديث الذي رواه أحمد وغيره عن جبير بن نفير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إنكم لن ترجعوا إلى الله بشيء أفضل مما خرج منه] يعني: القرآن، وقد روى أيضًا عن أبي أمامة مرفوعًا. وقال أبوبكر الصديق لأصحاب مسيلمة الكذاب ـ لما سمع قرآن مسيلمة ـ: ويحكم! أين يذهب بعقولكم؟ إن هذا كلامًا لم يخرج من إل. أي: من رب.

وليس معنى قول السلف والأئمة: إنه منه خرج ومنه بدأ: أنه فارق ذاته وحل بغيره، فإن كلام المخلوق إذا تكلم به لا يفارق ذاته / ويحل بغيره، فكيف يكون كلام الله؟ قال تعالى: {مَّا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا} [الكهف: 5]، فقد أخبر أن الكلمة تخرج من أفواههم، ومع هذا فلم تفارق ذاتهم.

وأيضًا، فالصفة لا تفارق الموصوف وتحل بغيره، لا صفة الخالق ولا صفة المخلوق، والناس إذا سمعوا كلام النبي صلى الله عليه وسلم ثم بلغوه عنه كان الكلام الذي بلغوه كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد بلغوه بحركاتهم وأصواتهم. فالقرآن أولى بذلك، فالكلام كلام الباري والصوت صوت القارئ، قال تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ} [التوبة: 6]، وقال صلى الله عليه وسلم: (زينوا القرآن بأصواتكم).

ولكن مقصود السلف الرد على هؤلاء الجهمية؛ فإنهم زعموا أن القرآن خلقه الله في غيره، فيكون قد ابتدأ وخرج من ذلك المحل الذي خلق فيه لا من الله، كما يقولون: كلامه لموسى خرج من الشجرة، فبين السلف والأئمة أن القرآن من الله بدأ وخرج، وذكروا قوله: {وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ} [السجدة: 13] فأخبر أن القول منه لا من غيره من المخلوقات.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير