تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

وهذه السعة في الزمان والمكان والخلق على تعدد المشكلات واختلاف النيات وكثرة الاحتمالات لا يسعها عقل مهما أوتي من قدر في الحفظ والذكاء. والدين الذي أنزله سبحانه وتعالى ليس شأناً واحداً من شئون الناس، وإنما هو شئونهم جميعاً: حياتهم وموتهم، وعبادتهم ومعاملاتهم، وأخلاقهم. فما من شأن من شئونهم إلا وهو في إطار الدين وجوباً أو إباحة أو ندباً أو تحريماً أو كراهة، فقلوب الناس يجب صياغتها وفق عقائد هذا الدين وموازينه، وأخلاق الناس يجب تقويمها وفق أخلاق هذا الدين ومثالياته، ومعاملات الناس -على تعدد هذه المعاملات- قد وضع لها أصول وقواعد وضوابط لتحقيق العدل والسعادة، وتحت كل باب من هذه الأبواب فروع كثيرة جداً، وهذه الفروع تكثر بكثرة المشكلات وتتجدد بتجددها.

فلو جئت إلى باب العقائد ومسائل الإيمان -مثلاً- لعلمت أنك تستطيع أن تلم بعقائد الإسلام وعلومه في الغيب في وقت يسير، ولكن إذا أردت تصحيح عقائد الناس وفقاً للعقيدة الإسلامية لوجدت أنك أمام بحر متلاطم من المشكلات والحوادث والباطل الذي يحتاج إلى ردود وتفنيد، ولو وجدت أيضاً أنك أمام شبهات حول الدين تكاد لا تدع فرعية من فرعيات هذه الدين إلا وشوهت صورتها وطمست معالمها، وكل هذا يحتاج إلى رد وإبطال. وهكذا فالحركة بهذا الدين تحتاج إلى جهد جهيد وجهاد طويل لا يقف عند حد، وكذلك الشأن في جميع أبواب علوم الإسلام التي تنظم حياة الناس جميعاً. ولما كانت هذه العلوم جميعها لا يستوعبها عقل، ولا يحيط بها فكر كان القيام بالدين جهاداً وعملاً ودعوة وقضاء وسياسة أمر متعذر لا يمكن أن نرى المجتهد المطلق الذي يعلم كل شيء ويفتي في كل شيء ويحكم على كل شيء، لأنه إن كان يوجد عالم على هذا النحو فليس إلا الله وحده العليم بكل شيء سبحانه وتعالى. وأما البشر فمهما أوتوا من سعة العلم، وسعة الأقوال وحدة الذكاء فلن يستطيعوا أن يحيطوا من الدين إلا بجوانب منه تضيق وتتسع بما ينعم الله سبحانه وتعالى على من يشاء منهم.

ولذلك لا يجوز بتاتاً أن نتصور المجتهد المطلق في أي حقبة من حقب التاريخ لهذا الدين: خليفة كان أو إماماً أو قاضياً أو مفتياً بل يجب أن نتصور دائماً أن سعة الدين أكبر من سعة الفرد. وأنه لا يسع الدين كله إلا الجماعة ولذلك أصبحنا نحتاج في دراسة الإسلام إلى أمرين هامين: -

أولاً: المعرفة الكلية العامة للدين، وهذه المعرفة الكلية لا بد وأن تشمل أساسيات هذا الدين من إيمان وعبادات ومعاملات وأخلاق ليأخذ كل فرد التصور العام للدين بمجموعه لا بتفصيلاته.

ثانياً: المعرفة الجزئية التخصصية لأبواب هذا الدين وفرعياته. فيحتاج المسلمون دائماً إلى متخصصين في علوم القرآن وفي علوم الحديث وأصول الفقه، والفقه، والمعاملات والسياسات، وإلى متخصصين في الدعوة والجهاد بالكلمة والرد على شبهات الخصوم. وهكذا وبمجموع هؤلاء المتخصصين يستطيع المسلمون أن يثبتوا في وجه الزحف الجاهلي الذي يريد اقتلاع حضارتهم ودينهم. وكذلك نحتاج من هؤلاء المتخصصين إلى المجتهدين الماهرين لا إلى المقلدين الجامدين الذين يعيشون على مستوى الأحداث فهماً ومواجهة وتفاعلاً. . فهماً للأحداث الجارية، ومواجهة للباطل من هذه الأحداث بما تقتضيه هذه المواجهة، وتفاعلاً مع هذه الأحداث على النحو الذي يثري أمة الإسلام في أفرادها وعلومها ويحقق لها عزتها ومكانتها.

باختصار، لم يوجد المجتهد المطلق في تاريخ الإسلام ولن يوجد هذا المجتهد المطلق حتى قيام الساعة، وإنما هناك العلماء الذين يأخذ كل منهم من العلم بقدر استيعابه وفهمه فيخطئ ويصيب، وتبقى الأمة بمجموعها معصومة عن الخطأ (إشارة إلى قوله صلى الله عليه وسلم: [إن الله لا يجمع أمتي على ضلالة] وهو حديث صحيح لطرقه. رواه الترمذي وغيره)، ويبقى الصواب موزعاً بين أفراد هذه الأمة، والصواب فضل الله، يؤتيه من يشاء، ولا يمكن ولا يجوز أن يحتكر رجل من الرجال بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم الصواب كله أبداً وأن تكون أقواله كلها قرآناً ووحياً منزلاً لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.

الثابت والمتغير في الدين

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير