هذه أضرار قليلة سردناها سريعاً أصابت الأمة من القول بقفل باب الاجتهاد ووقوف الفقه والاستنباط عند حد الأئمة الأربعة فقط. وثمة أضرار أخرى لا يتسع لها المجال.
ولذلك كان لدعاة السلفية من هذه الدعوى موقف واضح وهو ما يوضحه الفصل الآتي.
[السلفيون والأئمة الأربعة]
من هذا العرض السريع في الفصل السابق عن تاريخ الأئمة رضوان الله عليهم ومناهجهم وطرقهم في الاستنباط، يتبين أننا نحب الأئمة ونقدرهم ونتبعهم لا كما يتخرص المتخرصون. بل الأئمة رضوان الله عليهم هم سادتنا وهم بعض من سلفنا الصالح المشهود لهم بالخير والفضل، والأئمة الأربعة هم دعاة السلفية الحقيقيون، عنهم أخذت مبادئ السلفية في اتباع النص وترك التقليد، والسلفيون في كل العصور هم أولى الناس باتباع الأئمة واقتفاء آثارهم وفهم أقوالهم، وأسعد الناس حظاً بذلك.
وأما المقلدون الذين يزعمون أنهم على مذهبهم فهم أبعد الناس عنهم، لأنهم خالفوا هؤلاء الأئمة في نهيهم عن تقليدهم والإفتاء بآرائهم دون معرفة دليلهم. فهؤلاء المقلدون الذين يزعمون اتباع الأئمة هم أولى الناس بعداوة الأئمة ورفض مناهجهم في التعليم والعمل. ولكن لتعصبهم وضعف عقولهم ووازعهم الديني تاجروا بأقوال الأئمة وتترسوا بهم موهمين الناس أنهم على طريقتهم ومذهبهم وما هم كذلك. لأن كل إمام قال: " إذا خالف كلامي كلام رسول الله فخذوا بكلام رسول الله واضربوا بكلامي عرض الحائط " (الإيقاظ ص: 104) ولم يقل أحد منهم بتاتاً: " فضل الله وعلم الشريعة محصور فينا فقط، ولا يأتي واحد بعدنا وليس أحد معاصراً لنا يعلم شيئاً من الشريعة كما نعلم ولذلك يجب على الأمة جميعاً تقليدنا فقط واتباع أقوالنا فقط ولا يجوز لأحد الخروج عن أقوالنا بحال ".
أقول: ما قال أحد منهم ذلك ولا أفتي بذلك، بل جميعهم -رضي الله عنهم- كانوا حرباً على التقليد والجمود وكلهم دعاة إلى الاتباع والأخذ بالدليل.
هذه خلاصة توضح الفرق بين الدعوة السلفية وغيرها من الدعوات في قضية الاجتهاد والتقليد، وهذه الدعوة السلفية هي دعوة الإسلام، والتسمية هنا اصطلاحية فقط ودعوة التقليد دعوة غير إسلامية لأنه لا نص عليها من كتاب أو سنة أو قول صاحب للنبي أو قول إمام أو قول عالم يعتد بعلمه أو حتى عقل صحيح يميز بين الحق والباطل والنور والظلام. وإذا كان الأئمة الأربعة أنفسهم هم حرب على التقليد فماذا بقي بعد ذلك؟ وإذا كان الأئمة الأربعة هم أساتذة السلفيين بعدهم وإلى قيام الساعة فماذا بقي بعد ذلك؟! وإذا علمنا في الفصل السابق مضار التقليد وآفاته فهاك هنا منافع وبركات القول بالاتباع والاجتهاد والأخذ بالدليل الذي هو خلاصة السلفية.
فبالرغم من أن الاتباع والاجتهاد والأخذ بالدليل شيء قد أمرنا به شرعاً فإن له مع ذلك آثاراً طيبة ومميزات كثيرة وبركات عظيمة على الفرد والأمة. ومن هذه البركات والثمرات ما يلي:
1 - المحافظة على وحدة الأمة ونبذ التعصب لبعض الرجال دون البعض الآخر، وبذلك لا يكون هناك مذاهب أربعة أو خمسة، بل مذهب واحد وطريق واحد هو طريق الكتاب والسنة، ويكون الأئمة وغيرهم من العلماء العاملين منارات على هذا الطريق الواحد ودعاة إلى هذا الطريق الواحد، وتكون أقوالهم وآراؤهم مقبولة طالما هي موافقة للنصوص المعصومة من الخطأ، نصوص القرآن والسنة الصحيحة.
2 - ربط الأمة بالكتاب والسنة وبذلك يعظم الوازع الديني لأنه شتان بين من يذكر بكلام الله وكلام رسوله ومن يذكر ويوعظ بكلام آخر.
3 - بناء الفرد المسلم بناء صحيحاً سليماً وذلك بتعويده طلب الحق، والمطالبة بالدليل. وبذلك يعمل عقله وقلبه ويكون في كل أموره باحثاً عن الحق، لا مقلداً للرجال وبذلك يعظم الحق في عينه ويتعلم كيف يميز بين الأقوال.
4 - إذا كان الأصل في معرف الدين هو الدليل والنص والكتاب والسنة راجت سوق العلم بالكتاب والسنة وارتبط الناس بأصول الدين ارتباطاً حقيقياً، وأما إذا كان العكس وارتبط الناس بالأقوال والآراء ضعفت الاستفادة من الكتاب والسنة وأصبحت قراءة القرآن والحديث للبركة فقط لا للعلم والتدبر والفقه وبذلك نخالف كلام ربنا الذي قال: {كتاب أنزلناه إليك ليدبروا آياته وليذكر أولوا الألباب} (ص: 29)، فأين من أخذ العلم من الكتاب والسنة وبحث عن الدليل عمن أخذه من الأقوال والآراء المنسوبة للعلماء، وقد تكون النسبة صحيحة وقد تكون النسبة خاطئة؟!
هذه بعض بركات فتح الأبواب إلى الكتاب والسنة والأخذ بالدليل وترك التعصب والتقليد. فهل بعد ذلك يلام الداعي إلى هذا؟ وهل جاء الرسول صلى الله عليه وسلم إلا ليدعونا إلى هذا وهل يستوي من يتبع المعصوم ممن يقلد غير المعصوم؟!
وبعد، فهذه عقيدتنا ودعوتنا ليست بدعاً ولا ابتداعاً، وإنما هي دعوة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، وهي دعوة الإسلام، وهي المنهج والطريق الذي سار عليه الصحابة رضوان الله عليهم الذين شهد الله لهم بالخير والفضل ودعوة الأئمة الأربعة وغيرهم من صالحي هذه الأمة الذين أحبتهم الأمة وشهدت بإمامتهم لتقديسهم الحق ودعوتهم إلى الكتاب والسنة ونحن على هذه العقيدة والمنهج بحول الله، نسأل الله أن يحيينا عليهما وأن يميتنا عليهما وأن يثبتنا عليهما حتى نلقاه والله المستعان وعليه التكلان ولا حول ولا قوة إلا به.