النوع الثالث من أنواع السحر المذكورة ـ الاستعانة بالأرواح الأرضية، يعني تسخير الجن واستخدامهم. قال:
واعلم أن القول بالجن مما أنكره بعض المتأخرين من الفلاسفة والمعتزلة. أما أكابر الفلاسفة فلم ينكروا القول بها. إلا أنهم سموها بالأرواح الأرضية. والجن المذكورون قسمان: مؤمنون، وكافرون وهم الشياطين.
قال الرازي في كلامه على هذا النوع من السحر: واتصال النفوس الناطقة بها أسهل من اتصالها بالأرواح السماوية لما بينهما من المناسبة والقرب. ثم إن أصحاب الصنعة وأصحاب التجربة شاهدوا بأن الاتصال بهذه الأرواح الأرضية يحصل بأعمال سهلة من الرقى والدخن والتجريد. وهذا النوع هو المسمى بالعزائم، وعمل تسخير الجن. وقد أطال الرازي أيضاً الكلام في هذا النوع من أنواع السحر.
النوع الرابع من أنواع السحر ـ هو التخيلات والأخذ بالعيون. ومبنى هذا النوع منه على أن القوة الباصرة قد ترى الشيء على خلاف ما هو عليه في الحقيقة لبعض الأسباب العارضة. ولأجل هذا كانت أغلاط البصر كثيرة. ألا ترى أن راكب السفينة إذا نظر إلى الشط رأى السفينة واقفة والشط متحركاً، وذلك يدل على أن الساكن يرى متحركاً. والمتحرك ساكناً. والقطرة النازلة ترى خطاً مستقيماً. إلى آخر كلام الرازي. وقد أطال الكلام أيضاً في هذا النوع.
وقال ابن كثير رحمه الله في تفسيره في سورة «البقرة» مختصراً كلام الرازي المذكور: ومبناه على أن البصر قد يخطىء ويشتغل بالشيء المعين دون غيره. ألا ترى ذا الشعبذة الحاذق يظهر عمل شيء يذهل أذهان الناظرين به، وبأخذ عيوبهم إليه، حتى إذا استغرقهم الشغل بذلك الشيء بالتحديق ونحوه ـ عمل شيئاً آخر عملاً بسرعة شديدة، وحينئذ، يظهر لهم شيء غير ما انتظروه فيتعجبون منه جداً، ولو أنه سكت ولم يتكلم بما يصرف الخواطر إلى ضد ما يريد أن يعمله، ولم تتحرك النفوس والأوهام إلى غير ما يريد إخراجه لفطن الناظرون لكل ما يفعله. قال: وكلما كانت الأحوال تفيد حس البصر نوعاً من أنواع الخلل أشد، كان العمل أحسن. مثل أن يجلس المشعبذ في موضع مضيء جداً أو مظلم، فلا تقف القوة الناظرة على أحوالها والحالة هذه.
ا هـ منه. ولا يخفى أن يكون سحر سحرة فرعون من هذا النوع. فهو تخييل وأخذ بالعيون كما دل عليه قوله تعالى: {فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى?} فإطلاق التخييل في الآية على سحرهم نص صريح في ذلك. وقد دل على ذلك أيضاً قوله في «الأعراف»: {فَلَمَّآ أَلْقُوْاْ سَحَرُو?اْ أَعْيُنَ ?لنَّاسِ}. لأن إيقاع السحر على أعين الناس في الآية يدل على أن أعينهم تخيلت غير الحقيقة الواقعة، والعلم عند الله تعالى.
النوع الخامس من أنواع السحر ـ الأعمال العجيبة التي تظهر من تركيب الآلات المركبة على النسب الهندسية، كفارس على فرس في يده بوق، كلما مضت ساعة من النهار ضرب بالبوق من غير أن يمسه أحد. ومنها الصور التي يصورها الروم والهند حتى لا يفرق الناظر بينها وبين الإنسان، حتى إنهم يصورونها ضاحكة وباكية، حتى يفرق فيها بين ضحك السرور، وبين ضحك الخجل، وضحك الشامت.
فهذه الوجوه من لطيف أمور المخايل. قال الرازي: وكان سحر سحرة فرعون من هذا الضرب. ومن هذا الباب تركيب صندوق الساعات. ويندرج في هذا الباب علم جر الأثقال، وهو أن يجر ثقيلاً عظيماً بآلة خفيفة سهلة، وهذا في الحقيقة لا ينبغي أن يعد من باب السحر لأن لها أسباباً معلومة نفيسة، من اطلع عليها قدر عليها، إلا أن الاطلاع عليها لما كان عسير أعد أهل الظاهر ذلك من باب السحر لخفاء مأخذه ا هـ.
وقد علمت أن الرازي يرى أن سحر سحرة فرعون من هذا النوع الأخير، لأن السحرة جعلوا الزئبق على الحبال والعصي فحركته حرارة الشمس فتحركت الحبال والعصي فظنوا أنها حركة طبيعية حقيقة. والذي يظهر لنا أنه من النوع الذي قبله كما قدمنا، ولا مانع من أن يتوارد نوعان على شيء واحد فيكون داخلاً في هذا وفي هذا. والله تعالى أعلم.
¥