ابن سعد: فقالت أخت لبيد بن الأعصم: إن يكن نبينا فسيخبر، وإلا فسيذهله هذا السحر حتى يذهب عقله: قلت: فوقع الشق الأول كما في هذا الحديث الصحيح. وقد قال بعض العلماء: لا يلزم من أنه كان يظن أنه فعل الشيء ولم يكن فعله أن يجزم بفعله ذلك، وإنما يكون ذلك من جنس الخاطر يخطر ولا يثبت. فلا يبقى على هذا للملحد حجة.
وقال عياض: يحتمل أن يكون المراد بالتخيل المذكور أنه يظهر له من نشاطه ما ألفه من سابق عادته م الأقتدار على الوطء، فإذا دنا من المرأة فتر من ذلك كما هو شأن المعقود: ويكون قوله في الرواية الأخرى «حتى كاد ينكر بصره» أي صار كالذي أنكر بصره بحيث إنه إذا رأى الشيء يخيل إليه أنه على غير صفته. فإذا تأمله عرف حقيقته. ويؤيد جميع ما تقدم أنه لم ينقل عنه صلى الله عليه وسلم في خبر من الأخبار أنه قال قولاً فكان بخلاف ما أخبر به. وقال المهلب: صون النَّبي صلى الله عليه وسلم من الشياطين لا يمنع إرادتهم كيده، فقد مضى في الصحيح: أن شيطاناً أراد أن يفسد عليه صلاته، فأمكنه الله منه. فكذلك السحر ما ناله من ضرره ما يدخل نقصاً على ما يتعلق بالتبليغ، بل هو من جنس ما كان يناله من ضرر سائر الأمراض: من ضعف عن الكلام، أو عجز عن بعض الفعل، أو حدوث تخيل لا يستمر بل يزول. ويبطل الله كيد الشياطين.
واستدل ابن القصار على أن الذي أصابه كان من جنس المرض بقوله في آخر الحديث: «أما أنا فقد شفاني الله» وفي الاستدلال به نظر. لكن يؤيد المدعي أن في رواية عمرة عن عائشة عند البيهقي في الدلائل: فكان يدور ولا يدري ما وجعه. وفي حديث ابن عباس عند ابن سعد: مرض النَّبي صلى الله عليه وسلم، وأخذ عن النساء والطعام والشراب. فهبط عليه ملكان. الحديث ـ انتهى من (فتح الباري).
وعلى كل حال فهو صلى الله عليه وسلم معصوم بالإجماع من كل ما يؤثر خللاً في التبليغ والتشريع. وأما بالنسبة إلى الأعراض البشرية: كأنواع الأمراض والآلام، ونحو ذلك فالأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم يعتريهم من ذلك ما يعتري البشر. لأنهم بشر كما قال تعالى عنهم: {إِن نَّحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ وَلَـ?كِنَّ ?للَّهَ يَمُنُّ عَلَى? مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ} ونحو ذلك من الآيات.
وأما قوله تعالى: {إِذْ يَقُولُ ?لظَّـ?لِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُورًا} فمعناه أنهم يزعمون أنه صلى الله عليه وسلم مسحور أو مطبوب، قد خبله السحر فاختلط عقله فالتبس عليه أمره. يقولون ذلك لينفروا الناس عنه. وقال مجاهد: «مسحوراً» أي مخدوعاً. مثل قوله {فَأَنَّى? تُسْحَرُونَ} أي من أين تخدعون. ومعنى هذا راجع إلى ما قبله. لأن المخدوع مغلوب في عقله. وقال أبو عبيدة {مَّسْحُورًا} معناه أن له سحراً أي رئة فهو لا يستغني عن الطعام والشراب، فهو مثلكم وليس بملك. كقولهم {مَا لِهَـ?ذَا ?لرَّسُولِ يَأْكُلُ ?لطَّعَامَ وَيَمْشِى فِى ?لاٌّسْوَاقِ}، وقوله عن الكفار {مَا هَـ?ذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَوَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِّثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَّخَـ?سِرُونَ} ونحو ذلك من الآيات. ويقال لكل من أكل أو شرب من آدمي أو غيره: مسحور ومسحر. ومنه قول لبيد: فإن تسألينا فيم نحن فإننا عصافير من هذا الأنام المسحر
وقال امرؤ القيس: أرانا موضعين لأمر غيب ونسحر بالطعام وبالشراب
أي نغذي ونعلل.
وإذا علمت أن أقوال العلماء في قوله «مَسْحُوراً» راجعة إلى دعواهم اختلال عقله بالسحر أو الخديعة، أو كونه بشراً ـ علمت أنه لا دليل في الآية على منع بعض التأثيرات العرضية التي لا تعلق لها بالتبليغ والتشريع كما ترى، والعلم عند الله تعالى.
وقد أشرنا فيما تقدم لحكم ساحر أهل الذمة، واختلاف العلماء في قتله، واستدلال من قال بأنه لا يقتل بعدم قتله صلى الله عليه وسلم لبيد بن الأعصم الذي سحره. والقول بأنه قتله ضعيف، ولم يثبت أنه قتله. وأظهر الأقوال عندنا أنه لا يكون أشد حزمة من ساحر المسلمين، بل يقتل كما يقتل ساحر المسلمين. وأما عدم قتله صلى الله عليه وسلم لابن الأعصم فقد بينت الروايات الصحيحة أنه ترك قتله اتقاء إثارة فتنة، فدل على أنه لولا ذلك لقتله. وقد ترك المنافقن لئلا يقول الناس محمد يقتل أصحابه. فيكون في ذلك تنفير عن دين الإسلام مع اتفاق العلماء على قتل الزنديق وهو عبارة عن المنافق ـ والله تعالى أعلم. قوله تعالى: {فَأُلْقِىَ ?لسَّحَرَةُ سُجَّداً قَالُو?اْ آمَنَّا بِرَبِّ هَـ?رُونَ وَمُوسَى?}. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن سحرة فرعون لما عاينوا عصا موسى تبتلع جميع حبالهم وعصيهم خروا سجداً لله تعالى قائلين: آمنا بالله الذي هو رب هارون وموسى. فهداهم الله بذلك البرهان الإلهي، هذه الهداية العظيمة. وقد أوضح تعالى هذا المعنى في مواضع أخر. كقوله في «الأعراف»:
{وَأَوْحَيْنَآ إِلَى? مُوسَى? أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِىَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَوَأُلْقِىَ ?لسَّحَرَةُ سَـ?جِدِينَقَالُو?اْ ءَامَنَّا بِرَبِّ ?لْعَـ?لَمِينَرَبِّ مُوسَى? وَهَـ?رُونَ}، وقوله في «الشعراء»: {فَأَلْقَى? مُوسَى? عَصَـ?هُ فَإِذَا هِىَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَفَأُلْقِىَ ?لسَّحَرَةُ سَـ?جِدِينَقَالُواْ آمَنَّا بِرَبِّ ?لْعَـ?لَمِينَرَبِّ مُوسَى? وَهَـ?رُونَ}، وقوله: {فَأُلْقِىَ} يدل على قوة البرهان الذي عاينوه. كأنهم أمسكهم إنسان وألقاهم ساجدين بالقوة لعظم المعجزة التي عاينوها. وذكر في قصتهم أنهم عاينوا منازلهم في الجنة في سجودهم. والظاهر أن ذلك من نوع الإسرائيليات، وأطلق عليهم اسم السحرة في حال سجودهم لله مؤمنين به نظراً إلى حالهم الماضية. كقوله: {وَءَاتُواْ ?لْيَتَـ?مَى? أَمْوَ?لَهُمْ} فأطلق عليهم اسم اليتم بعد البلوغ نظراً إلى الحال الماضية كما هو معروف في محله.
¥