وفي بعضها: نهى عن بيع الذهب بالورق ديناً، كما في حديث البراء بن عازب وزيد بن أرقم في البخاري (2070) وكل هذه الألفاظ متقاربة، ومعناها جواز البيع الناجز من غير نظرة ولا تأجيل, وتحريم النسيئة في ذلك.
القول الثاني: أنه يجوز بيع الحلي المصوغ من الذهب أو الفضة بغيره من الذهب أو النقود نسيئة.
وهو اختيار ابن تيمية وابن القيم، رحمهما الله.
فقد قال ابن تيمية – كما في الاختيارات، وسبق -: "يجوز بيع المصوغ من الذهب والفضة بجنسه، من غير اشتراط التماثل، ويجعل الزائد في مقابلة الصنعة، سواء كان البيع حالاً أو مؤجلاً ما لم يقصد كونها ثمناً ".
وهذا صريح في جواز النسأ أو التأجيل، ما دامت الفضة أو الذهب حلياً أو نحوه، وليست أثماناً أو قيماً للأشياء.
وهكذا نص ابن القيم، فإنه قال في صدر كلامه:" … إن الحلية المباحة صارت بالصنعة المباحة من جنس الثياب والسلع، لا من جنس الأثمان، ولهذا لم تجب فيها الزكاة .. فلا محذور في بيعها بجنسها، ولا يدخلها، (إما أن تقضي وإما أن تربي) إلا كما يدخل في سائر السلع إذا بيعت بالثمن المؤجل …"
وقد استشكل بعضهم الاختلاف بين كلام الشيخ ابن تيمية هنا، وبين كلامه في الفتاوى حيث ورد إليه سؤال حول هذه المسألة فأفتى بالمنع، وهذا نص السؤال والجواب:
"امرأة باعت أسورة ذهب بثمن معين، إلى أجل معين، هل يجوز أم لا؟ فأجاب: إذا بيعت بذهب أو فضة إلى أجل لم يجز ذلك باتفاق الأئمة، بل يجب رد الأسورة إن كانت باقية، أو ردّ بدلها إن كانت فائتة، والله أعلم ". (الفتاوى 29/ 425)
وقالوا إنه حكى الإجماع هنا فكيف ينقضه هناك؟
والصواب دون شك عندي – أن الشيخ رحمه الله رجع عن هذا القول بالتحريم، إلى القول بالجواز، وهذه بعض الأدلة:
(1) أن هذه الإجابة القصيرة المجملة – هي سمة إجاباته القديمة، بخلاف إجاباته المتأخرة فيغلب عليها التوسع والتفصيل؛ لأنها أحياناً تكون مخالفة للمألوف، فتحتاج إلى سرد الحجج، ورد الاعتراضات عنها.
(2) أن القول بالجواز هو الذي اختاره البعلي في اختياراته ومن الواضح في الاختيارات أنها تمثل رأي الشيخ الأخير غالباً.
(3) أنه ذكره وأطال فيه النفس ورد ما يعارضه في تفسير آيات أشكلت وهو من كتبه المتأخرة، بل لعله ألفه وهو سجنه الأخير، كما أشار إلى ذلك ابن عبد الهادي (العقود الدرية ص 240)
(4) أن ابن القيم رحمه الله، وهو من أخص تلاميذ الشيخ نقله عنه باستفاضة في إعلام الموقعين كما سلف في المسألة الأولى.
أما حكاية الإجماع فلعله اعتمد فيها على نقل ابن المنذر أو غيره ثم ظهر له أن في نقل الإجماع نوعاً من التساهل، والله أعلم.
ولعله ركن في القول بالجواز إلى ما روي عن الحسن وإبراهيم والشعبي، كما في المصنف (8/ 96)، ولخصه النووي في المجموع (10/ 357) فقال: وعن الحسن وإبراهيم والشعبي، قالوا كلهم: لا بأس بالسيف فيه الحلية والمنطقة والخاتم بأن يبتاعه بأكثر مما فيه، أو بأقل، أو نسيئة.
وقد يكون في نسبة هذا القول لهم، أعني بيع الحلي بالذهب نسيئة، توسع وتسامح، لأن كلامهم المنقول هو في الذهب المخلوط بغيره, وهذه مسألة مختلفة, لكنه مبني على أنهم لما أخرجوا الحلية عن أصل الحكم، فكأنهم أجازوا فيها التفاضل والنسأ معاً، والله أعلم.
المسألة الثالثة:
حكم بيع الحلي من الذهب أو الفضة بالورق النقدي نسيئة.
والفرق بين هذه المسألة والتي قبلها، أن هذه المسألة خاصة بكون الثمن ورقاً نقدياً، من جنس الريالات أو الدولارات أو غيرهما.
أما التي قبلها فالثمن ذهب أو فضة، تبراً كان أو مضروباً أو غير ذلك.
وفي هذه المسألة ثلاثة أقوال:
القول الأول:
أنه لا يجوز بيع الذهب أو الفضة بالورق النقدي مطلقاً، لا نقداً ولا نسيئة، وذلك بحجة أن الورق النقدي هو عبارة عن سند بذهب أو فضة، فيكون البيع فيه غائباً بناجز، حتى مع تسليم الورق النقدي، الذي هو سند بدين – حسب قولهم - وهذا النظر، الذي هو توصيف للورق النقدي وتكييف له بأنه سندٌ بذهب أو فضة يعتمد على ما هو مكتوب عليها من التعهد بدفع قيمتها لحاملها عند الطلب.
وهذا – عند وجوده – شيء رمزي لا حقيقة له، ولا أحد يطلب، ولا أحد يدفع، ولا يلزم أن يكون لها مقابل.
¥