تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

المصيدة الرهيبة:

وأشد ما يبدو خبث هذا الشعوبي في عرضه – أحيانا – فواقرَه المقذعةَ بمنتهى الإتقان، حتى إذا مارضي عن موقع سهامه ختمها بمثل هذا التعقيب التافه: (وهذا الخبر موضع ريب عند الثقات) بعد أن يكون قد أحكم طعنته الفاجعة، وحق فيه قول الشاعر:

قد قيل ما قيل إن صدقا وان كذبا فما احتيالك في قول وقد قيلا!

وقد ساعده على تسديد طعناته استتاره وراء طرائق المحدثين عند إيراده أخباره، فهو يمهد للخبر بإسناده إلى سلسلة من الرواة، بينهم ثقات من أولى العلم والفضل، إلى جانبِ آخرين أكثرهم من الكذابين الوضاعين أو المجهولين أو الساقطين من مشهوري الشعوبيين، وهي مصيدة خطرة لقصار النظر وقليلي العلم بموضوع الأسانيد، فما إن يبصرون هذه القائمة من أسماء الرواة حتى يسلموا إليها قيادهم، ويتلقوا مضمونها بالقبول القاطع كأنها وحي يوحي .. وتزداد المحنة شدة بما تطرحه في أذهان البسطاء من كون هذه العينات من الهبوط الأخلاقي نماذجَ واقعيةً لما كان عليه السلف من ازدواجية في السلوك تجمع بين الوقار المؤَتمن والفجور الهدام، ثم لاتلبث أن تتسلل إلى سلوكهم ثم إلى مَن حولهم من طبقات المجتمع، حتى تزول الحواجز الفاصلة بين الحسن والقبيح والصالح والفاسد من الأقوال والأعمال .. فكيف إذا كان هؤلاء المتلقون من طبقة الفارغين ذوي اليسار الذين استهوتهم مُتَع الدنيا فلا شاغل لهم سوى الاجتماع على ذكرها وتتبع مروياتها، فعليها يتكئون في إذاعة مذاهبهم الماجنة، وحجتُهم المسوّغةُ هي هذه الأخبار الملغومة التي يرويها كبار الكتاب، وتصور الواقع المحجوب لكبار الفضلاء! ..

ثم هناك عامل آخر كان له أثره الفعال في تثبيت هذه المرويات الكاذبة أيام الأصفهاني، يتمثل لا ندرة النسخ المخطوطة من مراجعها الأصلية، بحيث لايصل إلى احتيازها سوى المتحكمين في مصاير المجتمعات من الأمراء وحواشيهم من المترفين ومدمني اللهو، الذين لا يهمهم من مثل كتاب الأصفهاني ما ينطوي عليه من الحقائق الموضوعية، بل كل ما يتطلعون إليه هو الحصول على ما يعوز أسمارهم من الطرائف التي تخفف عنهم أعباء العمل الجاد وتطلق ضحكاتهم المدوّية. فهؤلاء وحدهم القادرون على شرائها بمئات الدنانير .. فهم محتكروها فلا يكاد يصل خبرها إلى أوساط العلماء، الذين على جهودهم تتوقف سلامة المجتمعات الإسلامية من التلوث .. ولولا أن يَسَّر اللّه لبعض الهداة مِن حَفَظَة التاريخ الإِسلامي وممحصي الروايات سبيل الاطلاع على بعض الأجزاء من ذلك الكتاب المسمَّم ففضحوا مؤامراته وكشفوا الستور عن مفترياته، كالخطيب البغدادي صاحب تاريخ بغداد في الأولين، ووليد الأعظمي في المتأخرين، لظل محجوبا مقصورا على حلقات العابثين والماجنين ..

من هنا تسلل قرن الشيطان:

وقد بدأت الطامة الكبرى بإقبال المستشرقين على "الأغاني" إذ راحوا يروّجون له ويشيدون بقيمته ويبثون حبَّه في قلوب تلاميذهم من أبناء المسلمين ومن العرب الحاقدين على الإسلام. وحسبك أن تَعلم أن بين هؤلاء مثل/ عميد الأدب العربي/ طه حسين الذي استطاع أن يحشد حوله ذلك الكتاب الكثيرين من المعجبين والمصفقين، والناشرين لأفكاره الشعوبية، في أوساط المثقفين والدارسين على أيديهم من الغافلين في كل قطر عربي .. ولعل دمشق أوفرها حظاً في سلوك هذا المنزلق على يد الأستاذ شفيق جبري، الذي كان لكتابه الذي يدعم به أسانيد الأصفهاني، اليد الطولي بإشاعة سمومه بين هُواة الأدب ممن لا يملكون القدرة على البحث الجاد، فإذا هم فرائس سهلة لتضليل الأصفهاني لا يردون له خبرا، بل يصدقون كل ما يعزوه إلى خيار الناس من سلف هذه الأمة، وبذلك أصبحوا مهيئين للاستخفاف بتراثها العريق، وعلى أتم الاستعداد لخوض مثل تلك التجارب التي يزينها لهم ذلك الكتاب المسموم.

ولقد مد اللّه في عمري حتى رأيت بعض العاملين لا الحركة الثقافية بدمشق يعلنون ثقتهم بأسانيد الأصفهاني، دون أن يكلفوا أنفسهم عناء النظر في تراجم رجالها وموضعهم من القبول! والرفض لدى علماء الجرح والتعديل ..

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير