وقد تباينت آراء العلماء في شخصية الأصفهاني، فمع اتفاقهم على توكيد مكانته الثقافية يختلفون في قيمته الذاتية، ففي رأي الثعالبي أبي منصور أنه من أعيان أدباء بغداد وأفراد مصنفيها وشعرائها .. وكذلك قال فيه ابن خلكان في (وفيات الأعيان) ويزيد أنه (روى عن علماء يطول تعدادهم فكان عالما بأيام الناس والأنساب والسِيَر، ويروى عن التنوخي قوله فيه أنه (كان يحفظ من الشعر والأغاني والأخبار والآثار والأحاديث المسندة والنسب مالم أر قط من يحفظ مثله).
ومقابل ذلك يقول الإمام ابن الجوزي (إن مثله لا يوثق بروايته التي تحتوي ما يوجب تفسيقه، وهو يشرب الخمر وفي أغانيه كل قبيح ومنكر .. ).
ويروي الإِمام الذهبي عن شيخ الإِسلام ابن تيمية أنه يضعِّفه ويتهمه في نقله ويستهول ما يأتي به ... ) وعن أخلاقه وسلوكه الاجتماعي يقول مؤلف (أخبار الوزير المهلبي): كان أبو الفرج وسخا قذرا لم يغسل ثوبه منذ فصله إلى أن قطعه. ويؤيد ذلك قول القاضي التنوخي في كتابه (نشر المحاضرة) (كان وسخا في نفسه ثم في ثوبه وفعله. وكان أكولا نهما حتى التخمة فيعالج كظته بجرعات من الفلفل .. ويبدو من شعره أنه تولى القضاء وعُزل منه، وذلك في قوله من قصيدة له معاتبا ابن العميد:
وقد ولينا وعُزلنا كما أنت فلم نصغر ولم تَعظم
وهذا أيضا ما يفهم من تلقيب ابن خلدون إياه بالقاضي 1/ 34.
ومع ذلك كله لا نجد في حياته ما يدل على احتفاظه بعزة النفس، بل نجد ما يدل على الدناءة وذلك في مثل قوله لممدوحه الوزير المهلبي من قصيدة يصور بها أثر البرد في بناته أو نسائه:
فهذي تحنُّ وهذي تئنُّ وادمع هاتيك تجري دررْ
إذا ما تململن تحت الظلام تعللن منك بحسن النظر
فأنعم بإنجاز ماقد وعدت فما غيرك اليوم من يُنتظر
ولعل من وساخة نفسه ذلك الحسد الذي يثور به عندما يشاهد نعمةً على أحد فيقول:
فإذا رأيت فتى بأعلى رتبةٍ في شامخ من عزه المترفعِ
قالت لي النفس العزوف بفضلها ما كان أولاني بذاك الموضع
وفي هذه الترجمة المكثفة ما يكشف للحصيف الكثير من مكوِّنات هذا الإنسان. فلنقف على بعض نقاطها محاولين استخلاص بعض خلفياتها.
شعوبية أم شيعية:
إنه أموي دون خلاف، وهي نسبةُ تضادُّ التشيع، فكيف حدث هذا؟.
وقبل الجواب لابد أن نعود بالذاكرة إلى أيام انهيار الحكم الأموي، تحت مطارق الثورة العباسية التي طوت صفحة عريضة من التاريخ، وكان من حصادها سقوط عشرات الألوف من الأسرة الحاكمة وأعوانها من مختلف القبائل، فذلك حَدَث لا يتصور زواله من أعماق كل أموي، ومن شأنه أن يعمق في قلبه نوازع الحقد على كل ما هو عباسي، ومن هنا كان نظر كل من الفريقين إلى الآخر يتميز بالحذر ومراقبة الفرص للانقضاض والردّ أبدا .. وقديما قيل "عدو عدوك صديقك" لما وعن هذا الطريق يكون التقارب بين الشيعية والأموية مع الحذر الدقيق أمراً طبيعيا، وعلى هذا الأساس يكون تشيع الأصفهاني سطحيا لا يعدو حدود القشور، وهو أجدى عليه من حيث حاجته إلى الاتصال المصلحي بسلطات ذلك العهد مما يمكن أن يحقق له غير قليل من المكاسب، وهذا ما حدث إذ أتاح له – عن طريق شهرته الأدبية- أن يعقد الصلات الوثيقة مع وزراء وكبراء من ذلك العهد، وأن يتولى منصب الكتابة – وهي أشبه بالوزارة – في ظل البويهي ركن الدولة، وكذلك تسنمه منصة القضاء .. وقد نجح في هذا الجانب كل النجاح إذ كان موضع تقدير الكثير من رجال القمة يؤاكلهم ويشاربهم ويذاكرهم ويقارضهم الشعر ويجرع معهم الخمرة كشأنه مع الوزير المهلبي، الذي يبلغ به التعالي إلى مثل عمل الوزير ابن الزيات، حيث كان يقف على جانبي كل منهما عند طعامه غلام يقدم إليه ملعقة وآخر يتناولها منه في كل لقمة .. ومع ذلك لا يمنعه تعاليه من مجالسة الأصفهاني على مائدته الخاصة، وذات مرة يغلب السعال على أبي الفرج فيقذف بقيئه وسط تلك المائدة فينهض الوزير ليرفعها بنفسه ثم يدعو بغيرها ويواصلان الأكل معا دون عتاب ولاعقاب!!.
وطبيعي أن أحد الأسباب التي ساعدت الأصفهاني على احتلال هذه المكانة إنما يعي إلى إخفائه أمويته تحت ستار التشيع الذي كان بالنسبة إلى سياسة ذلك العهد العباسي أخف الشرين ..
¥