فإذا تنبه رعته، وإذا غفا سلت عليه سيوفك الأحلامُ
والعجيب بعد ذلك كله أن نرى مفكرا بعيد الرؤية يقبل جماع ما نسبه صاحب الأغاني إلى تلك الشخصية التي مهما اختلف عليها الرواة والكاتبون ستظل على علاتها إحدى مفاخر التاريخ الإسلامي في زمن تضافرت فيه العوامل المشوهة لذلك التاريخ، وستظل في تقدير المنصفين أكبر من الكيان الزائف الذي يرسمه الفارغون والمفسدون لذلك الخليفة، لأن مسئولياته أعظم من أوقاته، فلا متسع عنده للعبث واللهو إلا أن تكون نزواتٍ عجلي يتخفف بمثلها العظماء من أعبائهم المرهقة .. دون أن تمس كرامتهم ..
دسائس ومؤامرات:
الآن فلننتقل إلى الوجه الآخر من الصورة لنرى كيف يعرض أبو الفرج الأصفهاني من خلالها شخصية الرشيد، ومن أي الزوايا كان يستشرفها ..
لقد صبَّ هذا المؤلف جل اهتمامه على الجانب اللاهي من بيئة الرشيد وغواة عصره، حتى ليخيل لقصار البصيرة أن المجون هو اللون الوحيد الذي تميزت به تلك الحقبة، على حين أن ما خلص إلينا من مؤلفات الثقات تشهد بأن المجون لا يعدو النسبة الضئيلة من النشاط الجاد الذي يميزها فيجعلها أزهى عصور الحضارة الإسلامية الحافلة بأيمة المذاهب وأقطاب الزهد، وأساطين العربية، وعمالقة الفكر العالمي، الذين أمدوا العالم كله بالأشعة التي بددت الظلمات وفجرت ينابيع المعرفة، وكانت وراء كل التطورات العلمية الحديثة ..
على مقربة من أيام الأصفهاني تدفقت سيول القرامطة على منطقة الكوفة وأعملت فيها الدمار والموت، وكانت قمة الكارثة اختطافهم أطفال المسلمين إلى حيث يتحكمون في تنشئتهم، وما هو سوى يسير من الزمن حتى عاد هؤلاء يواجهون أهليهم تحت رايات الشيطان .. وهو نفسه المخطط الذي نفذته الشيوعية في أفغانستان مؤخرا بنقل الآلاف من أبنائها إلى محاضن الإلحاد العالمي، حتى إذا أيد الله بنصره أوليائه المجاهدين في سبيله ودخلوا كابول لإقامة الكيان المسلم الذي استشهد في سبيله ما يزيد على المليونين بين قتيل ومعوَّق، فوجئوا بتلك الآلاف المتخرجة في محاضن الإلحاد تخلف الكفرة المنهزمين في مقاومة المد الإسلامي، ليحولوا بين المجاهدين وبين الأهداف العليا التي حاربوا من أجلها أربع عشرة سنة ..
وهكذا تتلاقى سوابق الكفرو لواحقه، وتتطور مناهجه حتى يكون منها ما لا سبيل إليه إلا بالقتل والتدمير، ويكون منها هذا التخريب الروحي الذي مهد له صاحب الأغاني وأضرابه من الذين وقفوا جهودهم على إشاعة الفساد في الكيان الإسلامي .. وبعد هذا يبقى لنا وللقارىء سؤال كبير لا ينبغي أن نغفله:
لقد كان أبو الفرج من أوسع الناس علما بأحوال عصره، ولابد أن يكون قد علم يقينا ما أجمع عليه مؤرخو تلك الأيام من أن مجالس الرشيد كانت تضم الصفوة من أساطين العلماء وعمالقة اللغة والأدب. فماله يضرب صفحا عن ذكر هذه القمم، ويقصر نظره على ذلك الجانب اللاهي الذي يقتصر على أمثال الموصليَّيْن وابن جامع والزف ومخارق وبر صوما وزلزل وبقية الشلة من صعاليك المغنين والزمارين والطبالين!!.
لماذا اختار لنفسه مسلك الذبابة التي لا يستهويها سوى القمامة فلا تعير الطيبات أي اهتمام!!.
ألم يكن من حق الأدب والعلم والتاريخ على مؤلف الأغاني أن يفسح ولو فرجة صغيرة من كتابه لاعطاء القارئ فرصة الإطلال على الجميل النظيف من بيئة الرشيد؟!.
وغفر اللّه للمتنبي الذي يصور لنا نفور بعض النفوس المريضة من روائع الشعر وإيثارها حثالته في هذه الصورة الماتعة:
بذي الغباوة من إنشادها ضرر كما تضر رياحُ الورد بالجُعَلِ
مع كتاب للأ غانيِ .. وقفات ومناقشات:
يعتبر هذا الكتاب من أوعية المراجع التي عُنِيَت بالجانب اللاهي من بيئة الرشيد، وتستغرق أخباره مائة وأربع صفحات من خامس أجزائه الأربعة والعشرين، وكلها تحت عنوان واحد هو (نسب إبراهيم الموصلي وأخباره) ثم يلي ذلك (أخبار اسحق بن إبراهيم) وتستغرق بقية الخامس في مائة وثمان وستين صفحة لم تخل من ذكر الرشيد، وذلك غير الإلمامات الأخرى التي نثرها المؤلف عن الرشيد في مختلف المناسبات والأجزاء. وقد تناول الحديث في هذا القسم الأخير أشهر أبنائه وبخاصة المعتصم والمقتدر والواثق والمتوكل.
وتلك الصفحات المقاربة ثلاث المئات توشك أن تكون سجلا مكثفا لأخبار هذه الثلة من رموز
¥