بني العباس وصلتهم بكبار مغني عصرهم وتلاميذهم من الجواري وهواة الغناء، وولع الجميع بذلك الفن حتى الخلاعة والذوبان ..
ويبدأ أول القسمين بذكر المهدي والد هارون الرشيد، إذ كان معجبا بفن هذا الفارسي- 5/ 154 - ويصف المهديَّ بأنه لا يشرب، وأنه نهى إبراهيم عن الشرب، وحذره من الدخول على ولديه موسى الهادي وهارون الرشيد، ولكن إبراهيم لم يعبأ بذلك التحذير فاتصل بهما وشرب معهما .. ولما علم الهادي بمخالفته أودعه السجن مكبلا طوال عشر سنوات وصب عليه ثلاثمائة سوط- 5/ 160 - .
ويستوقفنا من هذا الخبر اصرار إبراهيم على محاولة إفساد ولدي الخليفة مع علمه بأن ذلك يعرضه لأشد الأخطار، وهاهي ذي طلائعها من السياط والسجن ولبثه في القيود كل تلك السنين .. فلِمَ يُقدم على هذا الضرب الدامي من المغامرات؟!.
ويأتينا جواب الموصلي في ذلك الحوار المكشوف بينه وبن ولده إسحق، وكان ذلك يوم جاءه ذلك الزائر الأرستقراطي من هواة الغناء يريد أن يُسمعه ويستنصحه، فما إن باشر بعرض بضاعته حتى بادره الابن برأيه في صوته وغنائه، ونصح له بترك هذه الصنعة التي لم يؤهَّل لا .. ولم يرض الأب عن تصرف ولده فصاح به وأنبه والتفت إلى الفتى يطمئنه بأهليته للتقدم .. ولما خلا بابنه بعد انصراف الزائر كاشفه بما في نفسه وهو أن عليهم دفع هؤلاء الحمقى في طريق الفساد ليتخذوا منهم دريئة يواجهون بها كراهية الطبقة المحافظة التي تحتقر أمثالهم من أهل الفن، فلا تنفك تعيرهم بصناعتهم، فمن مصلحتهم إذن أن يطوِّحوا بأبنائهم إلى منحدراتهم- 5/ 195 - .
ولبث إبراهيم في سجن المهدي حتى خلافة الهادي، وهناك صدر الأمر بإطلاقه وقربه فأمده بالمال والخوَل، وبلغ ما ناله من هباته مائة وخمسين ألف دينار في يوم واحد .. حتى ليقول هذا المغني: "لوعاش الهادي لبنينا حيطان دورنا بالذهب والفضة". وعن عهد الرشيد يقول حماد بن إبراهيم: "أحصيت ما صار لوالدي من المال وثمن ما باع من الجواري فبلغ أربعة وعشرين ألفَ ألفِ درهم، وذلك غير راتبه وغلات ضياعه"-5/ 163 - .
ويقول الأصفهاني: "ن الرشيد إثر توليته الخلافة وفراغه من إحكام الأمور جلس للشرب، ودخل عليه المغنون فكان إبراهيم أولهم، وكانت جائزته في ذلك اليوم عشرين ألف درهم" 5/ 204 - .
وفي الرقة وفي مجلس الشرب تذكر الرشيد أن لذته غير تامة بسبب غياب مغنيه المفضَّل إبراهيم الذي كان قد قذف به غضبه إلى غيابات السجن فما عتم أن أمر به أخرج وفكت قيوده، وهنا دفع إليه بعود وأمره فغناه وشرب وطرب، وكانت المكافأة ضيعتين نادرتي المثال هما/ الهنيء والمريء/ ويقعان بإزاء الرقة ويسقيهما نهران، وكان ذلك في غمرة النشوة طبعاً، حتى إذا ثاب الوعي استرد الرشيد هبته وعوضه عنهما مأتى ألف درهم- 5/ 166 - .
وفي خرجة أخرى إلى الرقه افتقد الرشيد مغنيه فلم يجد له أثرا وبعد أيام أتاه بعذر أرضاه، ذلك أنه سمع بخبر خَمَّار استهواه فقصد إليه فأقام عنده ثلاثة أيام يكرع من خمره المعتقة، ويصنع إبراهيم في تلك القصة شعرا ويصوغ ذلك صوتا يغني به الرشيد بمصاحبة الزمار الخاص بر صوما، فأنعم عليه بمئة ألف درهم، وبعث بطلب الخَمار السرياني فجاءه بهدية من ذلك الشراب فوصله، ووهب له إبراهيم عشرة آلاف –5/ 176.
ويسرق إبراهيم بن المهدي- أخو الرشيد- صوتا من إبراهيم الموصلي فيتقنه. وفي مجلس الشرب أمر الرشيد أخاه بأن يغنيه فغناه بذلك الصوت وهو يشرب فنفحه ثلاثمئة ألف درهم، وهنا اعترض الموصلي حالفا بالطلاق إن الصوت له ... فاعترف السارق، فنال الموصلي مكافأة أخرى مئة ألف، فكان محصول تلك الجلسة الإبليسية أربعمئة ألف درهم أي اثنين وعشرين ألف دينار – 5/ 216
وذات ليلة هب الرشيد من نومه فركب حماره القزم وارتدى زينته ومضى على رأس أربعمئة خادم أبيض سوى الفراشين إلى منزل الموصلي فتلقاه هذا بالتكريم اللازم وقبَّل حافر حماره، فنزل وأكل ثم دعا بشراب حُمل معه. وبدأ (كورس) من جواري الموصلي فجعلن يضربن اثنتين اثنتين وتغني واحدة، حتى غنت صبية من حاشيته بيتين فطرب الخليفة واستعاد الصوت مرارا وشرب أرطالا. ثم جاءت المفاجأة إذ سأل الرشيد الصبية عن صانع ذلك اللحن فأمسكت ... وبعد لأْيٍ أسرت إليه بأن الصوت لأخته عُلَية 218/ 5.
¥