تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

وليس في ظاهر هذا الخبر ما يستدعي الوقوف عليه، بيد أن في خلفياته ما يوجب التأمل الطويل في مراد الأصفهاني من ورائه، فهو يريد أن يوقع في خلدنا أن أمير المؤمنين وابن عم رسول اللّه قد وصل من التهتك إلى أن أصبح يضيق ذرعا بكل ما يتصل بمأرز الإيمان، بل حتى ليضيق بذكر المعالم التي يتشوق إليها المؤمنون من مهبط الوحي، وفي مقدمتها المسجد الذي يضاعف اللّه به الصلاة ألفا، والبقيع الذي يتمنى كل منهم أن يحتضنه مع أفضل خلق الله بعد النبيين .. لأن الرشيد بات شديد اللهف للعودة إلى الأيام التي رسخت في قلبه أطياف البطالين والماجنين .. ويختم هذه التفاهات بطلب الرجوع الذي أصبح يتحكم في عواطفه ..

ولكن .. أي رجوع؟ .. انه رجوع السئوم الذي مل حياة الرشد والفضيلة فهو يتطلع إلى الانسلاخ منها لينقطع إلى أهوائه! ..

وهكذا يصور لنا هذا المغني أثره في مشاعر الخليفة الذي أصبح صراعا لا يكاد يحتمل بلا! ن نشأته الإيمانية على أيدي الصفوة من كبار علماء عصره، والمفسدات التي أحاطت به في ذلك الجو الخليع الذي يصوره صاحب الأغاني!. وشد ماكان أبؤ المهدي بعيد النظر عندما أراد تحصينه وأخاه موسى من وباء هذا الموصلي ومغريا ته، إذ حظر عليه الاتصال بهما تحت طائلة العقوبة الرادعة، وشدَّ ماكان ذلك الساحر محكم التصميم على الاستحواذ عليهما لاستعمالهما في إفساد الوسط الخلافي كله عن طريقهما .. وفي سبيل هذا الهدف تحمل مختلف العقوبات، ولم ينقطع عنهما حتى كانا بزعمه من المستهترين، وذلك هو الطريق الأقصر إلى تحقيق كل ما يريده الشياطين.

أجل .. إن أبرز الملامح في شخصية الرشيد- كما تصوره روايات الأصفهاني- هو ذلك الصراع النفسي الذي يوزع كيانه بين الرصانة والخلاعة .. وقد رأيت مَثَل الأولى في غضبته البركانية حين رأى من أحد جلسائه ما يوهم الاستخفاف بالخبر النبوي، على حين تراه في موقف آخر متهالكا مسلوب الإرادة قد أخذه الشراب والطرب حتى ليتعرى من ثيابه فيخلعها على مغنيه، كما سبق لأخيه موسى الهادي ذات يوم وقد استخفه الطرِب فلم يتمالك أن تملص من در اعته، وحكَّم المغني في جائزته، فطلب أن يُقطعه عين مروانَ بالمدينة، ثم لم يتخل عن ذلك الطلب إلا بعد أن أطلق الهادي يده في بيت مال الخاصة فكانت الفدية خمسين ألف دينار! 84/ 5 أ-185. ومثل هذا السفه هو المرتكز الأساسي في مرويات الأصفهاني، وحسبك من ذلك الخبرُ الذي يريك الخليفة وقد طاش وعيه من السكر والانتشاء إذ سمع لحنا غناه به إبراهيم فلم يجد ما يكافئه عليه بأقل من (الهنيء والمريء) وهما ضيعتان مشهورتان من أعمال الرقة وتُسقيان من الفرات. يقول المغني إبراهيم: (فلما أصبحت عُوّضتُ عنهما مئتي ألف درهم- أي اثنين وعشرين ألف دينار- مقابل غنائه ليلة واحدة، ولعله لم يزد عن بيت واحد 00/ 166.

وسواء صحت هذه الأخبار المحيرة أم ضعفت فمما لا يتسع للخلاف أنها تعكس واقعا له جذوره، التي نمت وتفرعت حتى تركت طابعها على الكثير من جوانب ذلك المجتمع المتناقض ..

ولعل القارئ لم ينس بعد خبر ذلك العائل الفقير الذي هجر مكة وفيها زوجه تنتحب لفراقه، ليكدح في جدة طلبا للرزق، وقد سرت عدوى الغناء إلى قلبه فلا يتمالك أن يتسلى بترجيعه ابتغاء التخفيف من أعبائه .. ولهذا القارئ أن يضيف الآن إلى ذلك المشهد خبر ذلك النبطي الفلاح الذي ارتضاه إبراهيم وابنه إسحاق حكما بينهما في أيهما أفضل غناء من الآخر، فأصغى الفلاح إلى كل من المغنيين على حدة ثم أصدر حكمه للوالد على ابنه، فلم يستطع هذا اعتراضا ورضى من الغنيمة بلطمة من أبيه يقول انه لم يمربه مثلها 199 - 255.

ولا غرو فالناس دائما على دين ملوكهم، وفي القانون الإلهي الذي نقرؤه في قوله تعالى: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً} الإسراء/ 16 نجد مصداق ذلك. لأن من معاني (امرنا مترفيها) أكثرناهم حتى غلبت طرائقهم على مجتمعهم ففسد تركيبه ففقد صلاحية الحياة فصار إلى الدمار .. وهو القانون الذي مضى حكمه في الأندلس ثم في الدول الإسلامية كلها فكانت ولا تزال عبرة المعتبرين!!.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير