ولعلك توقفت أمام هذه التساؤلات ذات يوم كما توقفت أنا ومضيت كما وجدتني أمضي معها طويلا محاولا الوصول إلى أجوبة شافية .. وها أنا ذا اليوم أراني مشدودا إلى ذلك الهاجس الطفولي أسأل نفسي: هذه القناطير المقنطرة من الدراهم والدنانير التي تتطاير أمام أتُنحَت لهم من الجبال أم تسيل بها الأودية؟! أم تقذف بها المصانع من بواتق المعادن الخسيسة، التي أعيننا بين أيدي الخلفاء والوزراء والندماء فلا تكاد تهتدي إلى مستقر لها .. من أين يأتي بها هؤلاء؟! يحاولن كيميائيو ذلك العصر تحويلها إلى المعادن النفيسة؟ .. أسئلة محيرة لا نملك لها جوابا .. ولكنها تشق لنا الطريق إلى البحث عن مصادر هاتيك الأموال!، وعن المجاري التي تسلكها، والنتائج التي تصير إليها! ذلك التبذير الرهيب ..
مرقب واحد فقط يقف بنا عنده ذلك البحث لنكتشف من خلاله أهم أسرار ذلك اللغز، فإذا هي كلها متشابكة حول العُرف العام الذي يطلق يد المسئول الأعلى في حياة الناس ودمائهم وأموالهم .. فبكلمة من شفتيه يسوق من يشاء إلى السجن المنسيِّ أو الموت المقضيِّ، وبأخرى مثلها يصادر حصائل أعمار الناس فيمسخ يسرهم فقرا ورياضهم قفرا .. وبكلمةٍ تُحَول أموال الدولة إلى أيدي العابثين يموهون بها جدرانهم بالذهب، وينصبون التماثيل في قصورهم الأسطورية، ويحشون بها أفواه السكارى لتحيل أصواتهم أغاريد تتموج فيها أنغام الطيور الشادية بمختلف الألحان!!.
أما الجماهير البائسة فعليها وحدها الصبر على الفاقة والحرمان، حتى يصير بها الأمر إلى مستقره من اليأس الذي يدمر الحدود ويحطم السدود، ويدفعها بقوة لا مرد لها إلى الهدم بعد البناء والاضطراب العام بعد السلام الذي طالما نعمت به في ظلالا الإيمان، حتى لَيجتاحُ الغوغاءُ البلدَ الذي كان حتى الأمس قبة الإسلام فإذا هو بين ليلة وضحاها مضرب المثل في الخراب، وإذا بالمئات الثلاث من ألوف أهلها الغافلين طعام سائغ للموت يتقاسمهم دجلة والحرائق الكاسحة فلا نرى لهم أثرا إلا من خلال رثاء ابن الرومي في مثل قوله:
لهف نفسي عليك أيتها البصر ة لهفا يطول فيه هيامي
لهف نفسي عليك يا قبة الأس لام لهفا يزيد منه ضرامي
ثم تتتابع حبات العقد حتى يتوقف قليلا عند اجتياح هولاكو بغداد فتزول بذلك جنة الدنيا.
وحتى حفيدة رسول اللّه لم تسلّم من أذاه:
وأقف هنا قليلا لألقي نظرة عجلى على ما سطرتُ من الإضافات فإذا هي تتجاوز المتوقع، مع أنها لم تكد تعدو حدود الكلام عن بيئة الرشيد .. أفأرفع القلم أم أواصل إعماله في الكشف عن بعض المخزيات التي تفوق كل ما كشفناه حتى الآن من مؤامرات الأصفهاني على حرمات الإسلام!!.
وأي حرمة أحق بالاهتمام من كرامة البيت النبوي الذي يحتل مكان القداسة من قلوب المسلمين جميعا!!. فكيف كان موقف ذلك الشعوبي من ذلك البيت المطهر وهو يزعم أنه من أشياعه ومن أجل ذلك لا يشير إلى أحد من أهله إلا بصيغة التكريم والتسليم؟!.
وسنجتزئ من أحاديث الأصفهاني عن أهل البيت بنتف يسيرة تتصل بالسيدة الفاضلة سكينة بنت الإمام الحسين وابنةِ فاطمة البتول حفيدة رسول اللّه وأثيرته ..
وقبل التعرض لمفتريات ذلك الشعوبي على هذه الطاهرة يحسن أن نذكِّر القارئ بالجو الذي صارت إليه بعد مقتل أبيها ونكبة أسرتها في كر بلاء، وفي كل من هذه الزلازل ما يذهل العقول ويدمي القلوب فكيف بقلب سكينة العظيمة!!.
ومع ذلك لا يستحي ذلك الخَرَّاص أن يطمس على ذلك الجانب المأساوي كله ليريك بدلا عنه جانبا آخر مملوءا باللغو واللهو والعربدة!.
ويقف الأصفهاني بقرائه هنا على صفحات من حياة المغني عبيد بن سريج 17/ 42 ويبدؤها بالحديث عن تنسكه إذ كان قد أقلع عن احتراف الغناء ولزم المسجد الحرام ثم المسجد النبوي، كما يفعل في أيامنا أولئك التائبون المتطهرون من سفاهات الماضي ..
يقول الأصفهاني: "إن سكينة قد اغتمّت غما شديدا لتوبة ابن سريج واقلاعه عن الغناء، وتوسطت خادمها أشعب لاستخراجه من عزلته واستقدامه ليُسمعها ولو صوتا واحدا .. وبذل أشعب العجائب من حيله إلى أن أكره التائب على زيارة سيدته فجاء به، ودخلا عليها .. وجعلت تعاتبه على جفائه .. وتحدثا ساعة ثم استأذنها ابن سريج بالانصراف، فأبت عليه ذلك وراحت تطوقه بالموانع التي لا قِبَل له باختراقها":
¥