وقال ابن القيم: ((إذا شك في الشاهد هل هو عدل أم لا؟ لم يحكم بشهادته، لأن الغالب في الناس عدم العدالة، وقول من قال: الأصل في الناس العدالة، كلام مستدرك بل العدالة طارئة متجددة، والأصل عدمها، فإن خلاف العدالة مستنده جهل الإنسان وظلمه، والإنسان خلق جهولاً ظلوماً، فالمؤمن يكمل بالعلم والعدل، وهما جماع الخير، وغيره يبقى على الأصل، أي فليس الأصل في الناس العدالة ولا الغالب)) (9).
3) قال تعالى: {ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِن جَآءَكُمْ فَاسِقُ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُواْ أَن تُصِيببُواْ قَوْمَا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُواْ عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات:6].
قال القرطبي: ((وفي الآية دليل على فساد قول من قال: إن المسلمين كلهم عدول حتى تثبت الجُرحة؛ لأن الله تعالى أمر بالتثبت قبل القبول، ولا معنى للتثبت بعد إنفاذ الحكم؛ فإن حكم الحاكم قبل التثبت فقد أصاب المحكوم عليه بجهالة)) (10).
4) عن أبى إسحاق قال: كنت في المسجد الجامع مع الأسود فقال: أتت فاطمة بنت قيس عمر بن الخطاب،فقال: ((ما كنا لندع كتاب ربنا وسنة رآه لقول امرأة لا ندري أحفظت أم لا؟!)) (11).
قال الخطيب البغدادي: ((الطريق الى معرفة العدل المعلوم عدالته مع إسلامه وحصول أمانته ونزاهته واستقامة طرائقه لا سبيل إليها الا باختيار الأحوال وتتبع الأفعال التي يحصل معها العلم من ناحية غلبة الظن بالعدالة ....
يدل على صحة ما ذكرناه أن عمر بن الخطاب رد خبر فاطمة بنت قيس في إسقاط نفقتها وسكناها لما طلقها زوجها ثلاثا مع ظهور اسلامها واستقامة طريقتها ... )) اهـ (12).
5) عن خرشة بن الحر قال:شهد رجل عند عمر بن الخطاب _رضى الله تعالى عنه_ بشهادة فقال له:لست أعرفك ولا يضرك أن لا أعرفك،ائت بمن يعرفك.
فقال رجل من القوم:انا اعرفه.
قال:فبأى شيء تعرفه؟
قال:بالأمانة والعدل.
قال:فهو جارك الأدنى الذي تعرف ليله ونهاره ومدخله ومخرجه؟
قال:لا.
قال:فمعاملك بالدنيار والدرهم الذين بهما يستدل على الورع؟
قال: لا.
قال: فرفيقك في السفر الذي يستدل به على مكارم الأخلاق؟
قال: لا.
قال:لست تعرفه!
ثم قال للرجل:ائت بمن يعرفك (13).
فلو كان المسلمون عند عمر _رضي الله عنه_على العدالة مطلقاً بحسب ظاهرهم؛لقبل الرجل،ولم يتوقف في قبوله حتى يأتي بمن يعرفه ويعدّله، ولما تحقق من الرجل الذي ادعى معرفته به!
6) وعن على بن أبي طالب _رضي الله عنه_أنه قال: ((ما حدثني أحد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الا استحلفته)) (14).
قال الخطيب البغدادي:
((ومعلوم أنه كان يحدثه المسلمون ويستحلفهم مع ظهور اسلامهم، وأنه لم يكن يستحلف فاسقا ويقبل خبره،بل لعله ما كان يقبل خبر كثير ممن يستحلفهم مع ظهور اسلامهم، وبذلهم له اليمين،وكذلك غيره من الصحابة روى عنهم أنهم ردوا أخبارا رويت لهم، ورواتها ظاهرهم الإسلام،فلم يطعن عليهم في ذلك الفعل ولا خولفوا فيه،فدل على أنه مذهب لجميعهم،إذ لو كان فيهم من يذهب إلى خلافه لوجب بمستقر العادة نقل قوله إلينا،ويدل على ذلك أيضا إجماع الأمة على أنه لا يكفي في حالة الشهود على ما يقتضى الحقوق إظهار الإسلام دون تأمل أحوال الشهود واختبارها،وهذا يوجب اختبار حال المخبر عن الرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وحال الشهود لجميع الحقوق، بل قد قال كثير من الناس:إنه يجب الاستظهار في البحث عن عدالة المخبر بأكثر مما يجب في عدالة الشاهد، فثبت بما ذكرناه أن العدالة شيء زائد على ظهور الإسلام يحصل بتتبع الأفعال واختبار الأحوال، والله اعلم)) (15).
ثانياًـ ومما يؤكد أن إظهار الإسلام لايكف في الحكم بالعدالة عدة أمور، وهي كما يلي:
"الأول: أن الفاسق مردود الشهادة والرواية بنص القرآن ولعلمنا بأن دليل قبول خبر الواحد قبول الصحابة إياه وإجماعهم ولم ينقل ذلك عنهم إلا في العدل , والفاسق لو قبلت روايته لقبل بدليل الإجماع أو بالقياس على العدل المجمع عليه , ولا إجماع في الفاسق ولا هو في معنى العدل في حصول الثقة بقوله , فصار الفسق مانعا من الرواية كالصبا والكفر وكالرق في الشهادة , ومجهول الحال في هذه الخصال لا يقبل قوله فكذلك مجهول الحال في الفسق لأنه إن كان فاسقا فهو مردود الرواية وإن كان عدلا فغير مقبول أيضا للجهل به , كما لو شككنا
¥