قال الصفدي: "قرأ عليه قطعة من "المحرّر" لجدّه المجد، وقرأ عليه من "المحصول"، ومن كتاب "الأحكام" للسيف الآمدي، وقرأ عليه قطعة من "الأربعين" و"المحصل" وقرأ عليه كثيرًا من تصانيفه".
وبدأت هذه الملازمة بتوبة ابن قيم الجوزية على يدي شيخه ابن تيمية؛ كما أشار إلى ذلك بقوله
يا قوم والله العظيم نصيحة
من مشفق وأخ لكم معوان
جربت هذا كله ووقعت في
تلك الشباك وكنت ذا طيران
حتى أتاح لي الإله بفضله
من ليس تجزيه يدي ولساني
فتى أتى من أرض حرّان فيا
أهلًا بمن قد جاء من حران
وكان لهذه الملازمة أثرٌ بالغٌ في نفس ابن قيم الجوزية؛ فشارك شيخه في الذَّبِّ عن المنهج السلفي، وحمل رايتَه من بعده، وتحرر من كل تبعية لغير كتاب الله وسُنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- بفهم السلف الصالح.
قال الشوكاني: "وليس له على غير الدليل مُعَوَّل في الغالب، وقد يميل نادرًا إلى المذهب الذي نشأ عليه، ولكنه لا يتجاسر على الدَّفع في وجوه الأدلة بالمحامل الباردة؛ كما يفعله غيرُه من المتمذهبين، بل لا بد له من مستند في ذلك، وغالب أبحاثه الإنصافُ والميلُ مع الدليل حيث مال، وعدم التعويل على القيل والقال، وإذا استوعب الكلام في بحث وطوَّل ذيولَه أتى بما لم يأت به غيره، وساق ما ينشرح له صدورُ الراغبين في أخذ مذاهبهم عن الدليل، وأظنها سرت إليه بركةُ ملازمته لشيخه ابن تيمية في السَّراء والضّراء والقيام معه في محنه، ومواساته بنفسه، وطول تردده إليه.
وبالجملة فهو أحد من قام بنشر السُّنة، وجعلها بينه وبين الآراء المحدثة أعظم جُنَّة، فرحمه الله وجزاه عن المسلمين خيرًا.
ومع هذا كله فلم يكن ابن قيم الجوزية -رحمه الله- نسخةً من شيخه ابن تيمية، بل كان متفننًا في علوم شتى -باتفاق المتقدمين والمتأخرين- تدل على علو كعبه، ورسوخه في العلم.
وكيف يكون ابن قيم الجوزية مُرَدِّدًا لصدى صوت شيخه ابن تيمية -رحمه الله- وهو ينكرُ التقليدَ ويحاربُه بكلِّ ما أتي من حَوْل وقوَّة؟!
ثناء العلماء عليه:
قال ابن كثير -رحمه الله-: "سمع الحديث، واشتغل بالعلم، وبرع في علوم متعددة، ولا سيما علم التفسير والحديث الأصلين، ولما عاد الشيخُ تقي الدين ابن تيمية من الدّيار المصرية في سنة ثنتي عشرة وسبعمائة لازمه إلى أن مات الشيخ، فأخذ عنه علمًا جمًّا، مع ما سلف له من الاشتغال؛ فصار فريدًا في بابه في فنون كثيرة، مع كثرة الطَّلَب ليلًا ونهارًا، وكثرة الابتهال، وكان حسنَ القراءة والخُلُق، وكثيرَ التَّودُّد لا يحسدُ أحدًا ولا يؤذيه، ولا يستغيبُه ولا يحقدُ على أحد، وكنت أصحب الناس له، وأحب الناس إليه، ولا أعرف في هذا العالم في زماننا أكثرَ عبادة منه، وكانت له طريقةٌ في الصلاة يطيلها جدًا، ويمدُّ ركوعَه وسجودَه ويلومُه كثير من أصحابه في بعض الأحيان، فلا يرجع ولا ينزع عن ذلك -رحمه الله-، وله من التّصانيف الكِبار والصِّغار شيءٌ كثير، وكتَبَ بخطّه الحسنِ شيئًا كثيرًا، واقتنى من الكتب ما لا يتهيأ لغيره تحصيل عشره من كتب السلف والخلف.
وبالجملة كان قليلَ النظير في مجموعه وأموره وأحواله، والغالب عليه الخيرُ والأخلاقُ الصالحةُ، سامحه الله ورحمه".
قال ابن رجب -رحمه الله-: "وتفقه في المذهب، وبرع وأفتى، ولازم الشيخ تقي الدين وأخذ عنه، وتفنَّن في علوم الإسلام، وكان عارفًا بالتفسير لا يجارى فيه، وبأصول الدين، وإليه فيهما المنتهى، والحديث معانيه وفقهه، ودقائق الاستنباط منه، لا يُلحق في ذلك، وبالفقه وأصوله وبالعربية، وله فيها اليَدُ الطولى، وتعلم الكلام والنَّحو وغير ذلك، وكان عالمًا بعلم السّلوك، وكلام أهل التّصوف وإشاراتهم ودقائقهم، له في كل فَنّ من هذه الفنون اليد الطولى.
وكان -رحمه الله- ذا عبادة وتَهَجد، وطول صلاة إلى الغاية القصوى، وَتَألُّه ولهج بالذّكر، وشغف بالمحبة، والإنابة والاستغفار، والافتقار إلى الله والانكسار له، والاطراح بين يديه على عتبة عبوديته، لم أشاهد مثله في ذلك، ولا رأيت أوسع منه علمًا، ولا أعْرَف بمعاني القرآن والسنة وحقائق الإيمان منه، وليس هو المعصوم، ولكن لم أر في معناه مثله ".
وقال ابن ناصر الدين الدمشقي -رحمه الله-: "وكان ذا فنون في العلوم، وخاصة التفسير والأصول في المنطوق والمفهوم".
وقال السيوطي -رحمه الله-: "قد صَنَّفَ، وناظر، واجتهد، وصار من الأئمة الكبار في التفسير والحديث، والفروع، والأصلين، والعربية".
مؤلفاته:
ضرب ابن قيم الجوزية بحظ وافر في علوم شتى يظهر هذا الأمر جَليًّا لمن استقصى كتبه التي كانت للمتقين إمامًا، وأفاد منها الموافق والمخالف.
قال ابن حجر -رحمه الله-، "ولو لم يكن للشيخ تقي الدين من المناقب إلا تلميذه الشهير الشيخ شمس الدين ابن قيم الجوزية صاحب التصانيف النافعة السائرة التي انتفع بها الموافق والمخالف لكان غاية في الدلالة على عظم منزلته"
منقول من موقع مكتبة جامع شيخ الإسلام ابن تيمية
www.taimiah.org
¥