ومن الظاهر أن اللؤلؤة كانت محلاة بالذهب، لأنها لا تقوم بنفسها، ولا تحلى عادة إلا بها، ويؤيد ذلك لفظة: ((الجمرتين))، فإنها مستوحاة من بعض أحاديث التحريم المتقدمة كحديث بنت هبيرة، فثبت بطلان دعوى الإجماع في هذه المسألة.
دعوى نسخ الأحاديث المتقدمة، وإبطالها
2 - وادعى آخرون نسخ هذه الأحاديث المحرمة بمثل قوله صلى الله عليه وسلم: ((أحل الذهب والحرير لإناث أمتي ... ))، وهو حديث صحيح بمجموع طرقه، وقد ذكرها الزيعلي في ((نصب الراية)) (4/ 222 - 225)، ثم حققته في تخريج كتاب ((الحلال والحرام)) للأستاذ القرضاوي (رقم78)، وهو ادعاء باطل، لأن للنسخ شروطاً كثيرة معروفة عند العلماء؛ منها أن يكون الخطاب الناسخ متراخياً عن المنسوخ، ومنها أن لا يمكن الجمع بينهما، وهذان الشرطان منفيان هنا، أما الأول؛ فلأنه لا يُعلم تأخر هذا الحديث المبيح عن
[175]
أحاديث التحريم، وأما الثاني؛ فلأن الجمع ممكن بسهولة بين الحديث المذكور وما في معناه، وبين الأحاديث المتقدمة، ذلك لأن الحديث مطلق، وتلك مقيدة بالذهب الذي هو طوق أو سوار أو حلقة، فهذا هو المحرم عليهن، وما سوى ذلك من الذهب المقطع فهو المباح لهن، وهو المراد بحديث حلّ الذهب لهن، فهو مطلق مقيد بالأحاديث المشار إليها، فلا تعارض وبالتالي فلا نسخ.
ولذلك لم نر أحداً ممن ألف في الناسخ والمنسوخ أورد الأحاديث المذكورة فيما هو منسوخ، كالحافظ أبي الفرج ابن الجوزي في رسالة ((إخبار أهل الرسوخ في الفقه والتحديث بمقدار المنسوخ في الحديث))، والحافظ أبي بكر الحازمي في كتابه ((الاعتبار في الناسخ والمنسوخ من الآثار))، وغيرهما، بل قد أشار ابن الجوزي رحمه الله في مقدمة رسالته المشارة إليها إلى رد دعوى نسخ هذه الأحاديث، فقال:
((أفردت في هذا الكتاب قدر ما صح نسخه أو احتمل، وأعرضت عما لا وجه لنسخه ولا احتمال، فمن
[176]
سمع بخبر يدعى عليه النسخ وليس في هذا الكتاب، فليعلم وهاء تلك الدعوى، وقد تدبرته فإذا فيه أحد وعشرون حديثا)).
بل قال المحقق ابن القيم في ((الأعلام)) (3/ 458):
((إن النسخ الواقع في الأحاديث الذي أجمعت عليه الأمة؛ لا يبلغ عشرة أحاديث البتة، ولا شطرها))!
قلت: ثم ساقها، وليس فيها شيء من هذه الأحاديث السابقة، فثبت ضعف ادعاء احتمال نسخها، فكيف الجزم بنسخها؟ وقد أشار لضعف دعوى النسخ ابن الأثير في ((النهاية))، بقوله تعليقا على حديث أسماء المشار إليه آنفاً:
((قيل: كان هذا قبل النسخ، فإنه قد ثبت إباحة الذهب للنساء)).
فإن لفظة: ((قيل)) للتمريض كما هو معروف.
وقال العلامة صدر الدين علي بن علاء الحنفي بعد أن حكى كلام ابن الجوزي الآنف الذكر:
((وهذا هو الذي يشهد العقل بصدقه إذا سَلِم من
[177]
الهوى، وقد ادعى كثير من الفقهاء في كثير من السنة أنها منسوخة، وذلك إما لعجزه عن الجمع بينها وبين ما يظن أنه يعارضها، وإما لعدم علمه ببطلان ذلك المعارض، وإما لتصحيح مذهبه ودفع ما يرد عليه من جهة مخالفة، ولكن نجد غيره قد بين الصواب في ذلك، لأن هذا الدين محفوظ، ولا تجتمع هذه الأمة على ضلالة)).
ولقد صدق رحمه الله في كل ما ذكره، فأنت ترى أن هذه الأحاديث المحرمة لا تتعارض مطلقاً مع حديث حل الذهب للنساء، لأنه عام، وتلك خاصة، والخاص مقدم على العام كما هو مقرر في علم الأصول، ولهذه القاعدة رجح الإمام النووي رضي الله عنه في ((شرح مسلم)) و ((المجموع)) وجوب الوضوء من أكل لحم الإبل، مع أنه مخالف لمذهبه، بل ومذهب الجمهور، حتى ظن بعض المتعالمين في هذا العصر أنه لا يقول بالوضوء منه عالم من علماء المسلمين! كما نشر ذلك في
[178]
بعض الجرائد الدمشقية سنة 1386هـ تقريباً.
ولِما ذكرنا قال ولي الله الدهلوي في ((حجة الله البالغة)) (2/ 190) بعد أن ذكر أحاديث التحريم وحديث الحل:
((معناه الحل في الجملة، وهذا ما يوجبه مفهوم هذه الأحاديث، ولم أجد لها معارضاً)).
وأقره صديق حسن خان في ((الروضة الندية)) (2/ 217 - 218).
قلت: ومما يدلك على ضعف دعوى النسخ هذه؛ أن بعض متعصبة الحنفية- وقد سبقت الإشارة إليه- لم ينظر إليها بعين الرضا، مع أنه حكاها عن الجمهور الذين يقلدهم في هذه المسألة، واحتج على ذلك بقوله- وقد وفق فيه-:
¥