تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

كان لسلفنا الصالح من أصحاب القرون الثلاثة الأولى فضل كبير في خدمة السنة النبوية، ومن تلك الخدمة: نقلها إلينا بعد تنقيتها من الدخيل والزائد عليها؛ إنهم بذلوا أعلى غاية الجهد في خدمة السنة من أجل أن يدفعوا عنها كل دخيل؛ فأبطلوا جميع مخططات الأعداء الذين كانوا يريدون النيل من السنة وأعملوا أفكارهم وبذلوا جهدهم حتى بينوا أوهام الرواة وأخطاءهم، وحفظوا لنا السنة في صدورهم ودواوينهم حتى أوصلوها لنا نقية من تحريف كل مبطل.

ثم إن هذا الرعيل الأول من المتقدمين قد بلغوا في الحفظ والضبط والإتقان والقوة أقصى غاياته وحفظوا ونقبوا عن الطرق أشد التنقيب؛ حتى بذلوا في خدمة السنة كل غال ونفيس. ومادامت السنة في صدورهم وبين أحضانهم ولعصر الرواية انتماؤهم ووجودهم ولها ثبتت ملاحظتهم ومعايشتهم فقد تأكد وعلى ممر القرون وبالنظر والموازنة والمقارنة أن أحكامهم في هذا الشأن أعلى الأحكام وأصحها؛ لشدة قربهم ومعاصرتهم للرواية، وقوة قرائحهم وحفظهم مئات الألوف من الأسانيد حتى أصبح السند الذي يشذ عن أحدهم عزيزاً نادراً.

ومع هذا الاتصاف بالحفظ التام والنظر الثاقب امتازوا بالورع التام والديانة والمذاكرة بينهم في خدمة هذا الدين عن طريق تنقية السنة من تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين.

إذن فإن أقوال المتقدمين وأحكامهم في هذا الشان ينبغي أن تعتبر أقصى حدود الاعتبار، وإن إعلال المتقدمين لحديث من الأحاديث لا ينفعه تصحيح المتأخرين.

بل إن المتأخرين لن يقفوا على مالم يقف عليه المتقدمون ولو وجد شيء على غرار هذا لكان علم المتقدمين به أولاً معلوماً، لكنهم أعلم بما لابس هذا المتن أو الإسناد من علل ظاهرة أوخفية.

وإن مما يؤسف له أن كثيراً ممن ينتحل صناعة الحديث ظن أن هذه الصناعة قواعد مطردة كقواعد الرياضيات؛ فأصبح يعمل القواعد على ظواهر الأسانيد، ويحكم على الأحاديث على حسب الظاهر، بل ربما كان قصارى جهد أحدهم الحكم على الإسناد من خلال تقريب الحافظ ابن حجر أو ما أشبه ذلك من غير مراعاة لما يلحق الرواية سنداً ومتناً من ملابسات وعلل وأخطاء واختلافات. وإننا لنلمح هذا كثيراً حينما نجد تصحيحات المتأخرين تخالف إعلال المتقدمين، وبعد النظر والتحليل وجمع طرق الحديث مع الموازنة والمقارنة وإعادة الفكرة نجد الصواب مع المتقدمين وإنما فات المتأخرين بسبب إهمالهم لجمع الطرق والفحص الشديد وإعمال للقواعد على ظاهرها لكونها عامة مطردة باعتقادهم.

وإن مما يفوت المتأخرين كثيراً قلة اهتمامهم بما يحف الرواية من اختلاف حال الثقة أو الصدوق أو الضعيف من حال إلى حال، ومن وقت إلى وقت، ومن مكان إلى مكان، وكما إن حديث الثقة ليس كله صحيحاً فكذلك حديث الضعيف ليس كله ضعيفاً بل منه ما يقوى، ومع أنا قد ابتلينا بكثرة تصحيح الأحاديث على مجرد النظر في الأسانيد أو إعمال قواعد كقواعد الرياضيات كذلك ابتلينا بالمبالغة في التصحيح بالشواهد والمتابعات من غير بحث ونظر من خشية أن تلك المتابعات والشواهد وهم وخطأ، ربما جاءنا طريق ضعيف من حديث أبي هريرة قويناه، لسند آخر من حديث ابن عباس، مع أن السند الثاني وهم ناتج عن السند الأول.

ومن الأمثلة التي من خلالها يظهر لنا جلياً تباين منهج المتقدمين والمتأخرين حديث عيسى بن يونس، عن هشام بن حسان، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة مرفوعاً: ((من ذرعه القيء فليس عليه قضاء، ومن استقاء فليقض)).

أخرجه أحمد 2/ 498، والدارمي (1736)، والبخاري في التاريخ الكبير 1/ 91، وأبو داود (2380)، وابن ماجه (1676)، والترمذي (720)، والنسائي في الكبرى (3130)، وابن الجارود في المنتقى (385)، وابن خزيمة (1960) و (1961)، والطحاوي في شرح المعاني 2/ 97 وفي شرح المشكل، له (1680)، وابن حبان (3518)، والدارقطني 2/ 184، والحاكم 1/ 426، والبيهقي 4/ 219، والبغوي (1755) من طرق عن عيسى بن يونس به، وقد توبع عيسى بن يونس تابعه حفص بن غياث عند ابن ماجه (1676)، وابن خزيمة عقب (1961)، والحاكم 1/ 426، والبيهقي 4/ 219.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير