للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الراوي مستحقًا لأن يوصف بأنه: "استعار" و "شبه"، وأن يُجْعَل كالشّاعرِ في كل ما يكونُ به ناظماً، فيُقال: إنه جعَلَ هذا فاعلاً، وذاك مفعولاً، وهذا مبتدأ، وذاك خبراً، وجعلَ هذا حالاً، وذاكَ صفةً، وأنْ يُقالَ: "نَفَى كذا" و "أثبت كذا"، و "أبدل كذا من كذا". و "أضاف كذا إلى كذا"، وعلى هذا السبيل، كا يقال ذاك في الشاعر. وإذا قيل ذلك، لزمه منه أنْ يُقال فيه: "صدَقَ، وكَذَبَ"، كما قال في المحْكيِّ عنه، وكفَى بهذا بُعْداً وإحالةً. ويجمع هذا كله، أنه يلزم مننه أن يُقال: "إنه قال شعراً"، كما يقال فيمنْ حَكَى صَنعةَ الصّائغِ في خاتَمٍ قد عَمِلَه: "إنه قد صاغَ خاتماً".

وجُملةُ الحديثِ أن نَعْلَمُ ضرورةَ أنه لا يتأتَّى لنا أن تنظم كلاماً من غير رَويَّةٍ وفكْرٍ، فإِنْ كانَ راوي الشعرِ ومُنْشِدُه يَحْكي نَظْم الشاعرِ على حقيقته، فَيْنبغي أنْ لا يتأتَّى له روايةُ شعرِهِ إلا برويَّةٍ، وإلاَّ بأنْ يَنْظُرَ في جميعِ ما نَظَرَ فيه الشاعرُ مِنْ أَمْرِ "النظْم". وهذا ما لا يَبقى معه موضعُ عذر للشاك.

إزالة شبهة في حكاية ألفاظ الشعر:

٤٢٩ - هذا، وسببُ دخولِ الشُّبهَةِ على من دَخَلَتْ عليه، أنه لمَّا رأى المعانيَ لا تَتَجلَّى للسامعِ إلاَّ مِنَ الألفاظِ، وكان لا يوقَفُ على الأمورِ التي بِتَوخِّيها يكونُ "النظْمُ"، إلاَّ بأنْ يَنْظُر إلى الألفاظ مرتَّبةً على الأنحاء التي يوجب ترتيبُ المعاني في النفسِ١ وجرتِ العادةُ بأن تكونَ المعاملةُ مع الألفاظِ فيقالُ: "قد نَظَم ألفاظاً فأحْسَنَ نظْمَها، وألَّفَ كَلِماً فأجادَ تأليفَها"٢ جعل الألفاظَ الأصْلَ في "النظمِ"، وجعلَه يُتوخَّى فيها أنفسها، وترك


١ "وجرت العادة"، معطوف على قوله في أول الكلام: "أنه لما رأى المعاني لا تتجلى ... ".
٢ السياق: "أنه لما رأى المعاني لا تتجلى ..... وجرت العادة .... جعل الألفاظ".