للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[ترجيح الكناية والاستعارة والتمثيل على الحقيقة]

فصل في الكناية والاستعارة والتمثيل:

٦٣ - قد أَجمعَ الجميعُ على أن "الكنايةَ" أَبْلَغُ منَ الإفصاحِ، والتعريضَ أَوْقَعُ من التَّصريح، وأنَّ للاستعارةِ مزيةً وفَضلاً، وأنَّ المجازَ أَبداً أبلَغُ منَ الحقيقة، إلا أَنَّ ذلك، وإِن كان معلوم ًا على الجُملة، فإِنّه لا تَطمئنُّ نفْسُ العاقلِ في كُلَّ ما يُطْلَبُ العلمُ بِه حتى يَبْلُغَ فيه غايتَه، وحتى يُغْلِغِلَ الفكْرَ إلى زواياهُ، وحتى لا يَبْقى عليه مَوضعُ شبهةٍ ومكان مسئلة. فنحن وإنْ كنَّا نَعْلم أَنك إذا قلْتَ: "هو طويلُ النِّجاد، وهو جَمُّ الرماد"، كان أَبْهى لِمَعْناك، وأَنْبلَ مِن أَن تَدَعَ الكنايةَ وتُصرِّح بالذي تُريدُ. وكَذا إذا قلتَ: "رأيتُ أسداً"، كان لِكلامِكَ مزيةٌ لا تكونُ إذا قلتَ: رأيتُ رجلاً هو والأسدُ سواءٌ، في معنى الشجاعةِ وفي قوةِ القلب وشدةِ البطش وأشباهِ ذلك. وإِذا قلتَ: "بَلَغني أنك تُقَدِّمُ رِجْلاً وتُؤخِّر أخرى"، كان أَوْقَعَ من صَريحه الذي هو قولُك: بَلغني أنك تَتردَّد في أَمرك، وأنك في ذلك كمَن يقولُ: أَخرجُ ولا أخرج، فتقدم رجلًا وتؤخر أُخرى١ ونَقْطعُ على ذلك حتى لا يُخالجُنا شكٌّ فيه٢ فإنَّما تَسْكُنُ أَنفُسُنا تمامَ السكونِ، إذا عرَفْنا السببَ في ذلك والعلَّةَ، ولِمَ كان كذلك، وهيأْنا له عبارةً تُفْهمُ عنا مَن نُريد إفهامَه. وهذا هو قولٌ في ذلك٣:


١ السياق: "فنحن وإنْ كنَّا نَعْلم أَنك إذا قلْتَ .... كان أوقع من صريحه .... ونقطع على ذلك".
٢ جواب الشرط، والسياق: "فنحن وإن كنا نعلم .... فإنما نسكن أنفنسا".
٣ في المطبوعة وحدها: ", هذا هو القول ... ".