للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

البخاري " على الأقل جدير بهذا الوصف عند أَشَدِّ المُحَدِّثِينَ غُلُواً في النقد)، مع أنها - أي الروايات الصحيحة - تشتمل على أمور كثيرة، يَوَدُّ المؤمن الصادق لو لم تَرِدْ فيها» (١)، فلم يكن غرض هذا المُسْتَشْرِق خالصاً للعالم والبحث المُجَرَّدِ، حين مال إلى الاعتراف بِصِحَّةِ ذلك النصيب الكبير من السُنَّة، وإنما كان يُفَكِّرُ أولاً وآخراً فيما اشتملت عليه هذه السُنَّة الصحيحة من نظرات مستقلَّة في الكون والحياة والإنسان، وهي نظرات لا يَدْرَأُ عنها استقلالها النقد والتجريح، لأنها لم تنبثق من العقل الغربي المُعْجِز، ولم تصوَّر حياة الغرب الطليقة من كل قيد!) (٢).

وعثر المُسْتَشْرِقُ شْبْرَنَجْر على كتاب " تقييد العلم " للخطيب البغدادي، فوجد فيه شواهد وأخباراً تدل على تدوين المسلمين للحديث في عَصْرٍ مُبَكِّرٍ، فكتب مقالاً حول ما وجده.

واطلع جُولْدْتسِيهِرْ على ما كتبه سَلَفِهِ شْبْرَنَجْر، وأيَّدَ فكرة كتابة المسلمين للحديث في عصر مُبَكِّرٍ، إلاَّ أنه تأمَّل في الأخبار التي عرضها سلفه شْبْرَنَجْر نقلاً عن الخطيب البغدادي وغيره ... فظنَّ بهذه الأخبار سُوءاً، وأراد أنْ يرى خلالها يَدَ الوضع والتزوير ... فقال: إنَّ أهل الرأي - الذين اعتمدوا في وضع فروع الشريعة على عقلهم، وأهملوا شأن حديث رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان من حُجَجِهِمْ أنَّ الحديث لم يكتب دَهْراً طويلاً فغابت معالمه، وتَشَتَّتَ أَمْرُهُ، وأيَّدُوا رأيهم بأخبار اختلقوها، تُثْبِتُ أنه لم يكتب، ولم يقف خصومهم - أهل الحديث - واجمين، بل فعلوا فِعلتهم، واختلقوا الأخبار تأيِيداً لقولهم، فنسبوا إلى الرسول أحاديث في إباحة الكتابة (٣).

هكذا رأى جُولْدْتسِيهِرْ أهل الرأي يَدَّعُونَ عدم كتابة الحديث، فيضعون من الآخبار ما يثبت دعواهم، وأهل الحديث يرون جواز تقييد العلم، فيضعون ما يثبت


(١) أشار الدكتور صبحي الصالح في " علوم الحديث ومصطلحه " هامش الصفحة: ٢٦ إلى أنَّ عبارة «دُوزِي» في الأصل آوقح من أنْ يوردها على حالها، وأحال على الأصل بالفرنسية!.
(٢) المرجع السابق.
(٣) مجلة الثقافة المصرية: العدد ٣٥١ السَنَةِ السابعة: ٢٢ - ٢٣ من مقالة الدكتور يوسف العش «نشأة تدوين العلم في الإسلام».

<<  <   >  >>