للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَالْبِحَارُ أَعْظَمُ الْمَخْلُوقَاتِ عِبْرَةً، وَأَدَلُّهَا عَلَى سَعَةِ الْقُدْرَةِ فِي سَعَتِهَا، وَاخْتِلَافِ خَلْقِهَا، وَتَسْيِيرِ الْفُلْكِ فِيهَا، وَخُرُوجِ الرِّزْقِ مِنْهَا، وَالِانْتِفَاعِ فِي الِانْتِقَالِ إلَى الْبِلَادِ الْبَعِيدَةِ بِالْأَثْقَالِ الْوَئِيدَةِ بِهَا.

وَالْهَوَاءُ فَإِنَّهُ خَلْقٌ مَحْسُوسٌ بِهِ قِوَامُ الرُّوحِ فِي الْآدَمِيِّ وَحَيَوَانِ الْبَرِّ، كَمَا أَنَّ الْمَاءَ قِوَامٌ لِرُوحِ حَيَوَانِ الْبَحْرِ، فَإِذَا فَارَقَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قِوَامَهُ هَلَكَ، وَانْظُرْ إلَى رُكُودِهِ ثُمَّ اضْطِرَابِهِ، وَهُوَ بِالرِّيحِ.

وَالْإِنْسَانُ أَقْرَبُهَا إلَيْهَا نَظَرًا، وَأَكْثَرُهَا إنْ بَحَثَ عِبْرًا، فَلْيَنْظُرْ إلَى نَفْسِهِ مِنْ حِينِ كَوْنِهَا مَاءً دَافِقًا إلَى كَوْنِهِ خَلْقًا سَوِيًّا، يُعَانُ بِالْأَغْذِيَةِ، وَيُرَبَّى بِالرِّفْقِ، وَيُحْفَظُ بِاللَّبَنِ حَتَّى يَكْتَسِبَ الْقُوَى، وَيَبْلُغَ الْأَشُدَّ؛ فَإِذَا بِهِ قَدْ قَالَ أَنَا وَأَنَا، وَنَسِيَ حِينَ أَتَى عَلَيْهِ حِينٌ مِنْ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا، وَسَيَعُودُ مَقْبُورًا. وَهَذَا زَمَانٌ وَسَطٌ بَيْنَهُمَا، فَيَا وَيْحَه إنْ كَانَ مَحْسُورًا فَيَنْظُرُ حِينَئِذٍ أَنَّهُ عَبْدٌ مَرْبُوبٌ، مُكَلَّفٌ مَخُوفٌ بِالْعَذَابِ إنْ قَصَّرَ، مُرْجًى بِالثَّوَابِ إنْ ائْتَمَرَ، فَيُقْبِلُ عَلَى عِبَادَةِ مَوْلَاهُ، فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ لَا يَرَاهُ يَرَاهُ، وَلَا يَخْشَى النَّاسَ فَاَللَّهُ أَحَقُّ أَنْ يَخْشَاهُ، وَلَا يَتَكَبَّرُ عَلَى أَحَدٍ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ فَإِنَّهُ مُؤَلَّفٌ مِنْ أَقْذَارٍ، مَشْحُونٌ مِنْ أَوْضَارٍ، صَائِرٌ إلَى جَنَّةٍ إنْ أَطَاعَ، أَوْ إلَى نَارٍ. وَلِذَلِكَ كَانَ شُيُوخُنَا يَسْتَحِبُّونَ أَنْ يَنْظُرَ الْمَرْءُ فِي الْأَبْيَاتِ الْحِكَمِيَّةِ الَّتِي جَمَعَتْ هَذِهِ الْأَوْصَافَ الْعِلْمِيَّةَ:

كَيْفَ يُزْهَى مَنْ رَجِيعُهُ ... أَبَدَ الدَّهْرِ ضَجِيعُهُ

فَهُوَ مِنْهُ وَإِلَيْهِ ... وَأَخُوهُ وَرَضِيعُهُ

وَهُوَ يَدْعُوهُ إلَى الْحَشِّ ... بِصُغْرٍ فَيُطِيعُهُ

[مَسْأَلَة أَيُّ الْعَمَلَيْنِ أَفْضَلُ التَّفَكُّرُ أَمْ الصَّلَاةُ]

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَيُّ الْعَمَلَيْنِ أَفْضَلُ: التَّفَكُّرُ أَمْ الصَّلَاةُ؟: اخْتَلَفَ فِي ذَلِكَ النَّاسُ، فَصَغْوُ أَيْ مَيْلُ الصُّوفِيَّةِ إلَى أَنَّ الْفِكْرَةَ أَفْضَلُ، فَإِنَّهَا تُثْمِرُ الْمَعْرِفَةَ، وَهِيَ أَفْضَلُ الْمَقَامَاتِ الشَّرْعِيَّةِ.

وَصَغْوُ الْفُقَهَاءِ إلَى أَنَّ الصَّلَاةَ وَالذِّكْرَ أَفْضَلُ؛ لِمَا رُوِيَ فِي ذَلِكَ مِنْ الْحَثِّ وَالدُّعَاءِ إلَيْهَا، وَالتَّرْغِيبِ فِيهَا، وَالْإِيعَازِ بِمَنَازِلِهَا وَثَوَابِهَا. وَاَلَّذِي عِنْدِي فِيهِ أَنَّ النَّاسَ مُخْتَلِفُونَ

<<  <  ج: ص:  >  >>