للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ فَأُوتِيَهُ، وَسَأَلَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ حِينَ فَرَغَ مِنْ بِنَاءِ الْمَسْجِدِ أَلَّا يَأْتِيَهُ أَحَدٌ لَا يَنْهَزُهُ «١» إِلَّا الصَّلَاةُ فِيهِ أَنْ يُخْرِجَهُ مِنْ خَطِيئَتِهِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ فَأُوتِيَهُ (. فَجَاءَ إِشْكَالٌ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ، لِأَنَّ بَيْنَ إِبْرَاهِيمَ وَسُلَيْمَانَ آمَادًا طَوِيلَةً. قَالَ أَهْلُ التَّوَارِيخِ: أَكْثَرُ مِنْ أَلْفِ سَنَةٍ. فَقِيلَ: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَسُلَيْمَانَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ إِنَّمَا جَدَّدَا مَا كَانَ أَسَّسَهُ غَيْرُهُمَا. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ أَوَّلَ مَنْ بَنَى الْبَيْتَ آدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَمَا تَقَدَّمَ. فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ غَيْرُهُ مِنْ وَلَدِهِ وَضَعَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ مِنْ بَعْدِهِ بِأَرْبَعِينَ عَامًا، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْمَلَائِكَةُ أَيْضًا بَنَتْهُ بَعْدَ بِنَائِهَا الْبَيْتَ بِإِذْنِ اللَّهِ، وَكُلٌّ مُحْتَمَلٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى الْمَلَائِكَةَ بِبِنَاءِ بَيْتٍ فِي الْأَرْضِ وَأَنْ يَطَّوَّفُوا بِهِ، وَكَانَ هَذَا قَبْلَ خَلْقِ آدَمَ، ثُمَّ إِنَّ آدَمَ بَنَى مِنْهُ مَا بَنَى وَطَافَ بِهِ، ثُمَّ الْأَنْبِيَاءُ بَعْدَهُ، ثُمَّ اسْتَتَمَّ بِنَاءَهُ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ. الثَّانِيَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (لَلَّذِي بِبَكَّةَ) خبر" إِنَّ" واللام توكيد. و" بِبَكَّةَ" مَوْضِعُ الْبَيْتِ، وَمَكَّةُ سَائِرُ الْبَلَدِ، عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ شِهَابٍ: بَكَّةُ الْمَسْجِدُ، وَمَكَّةُ الْحَرَمُ كُلُّهُ، تَدْخُلُ فِيهِ الْبُيُوتُ. قَالَ مُجَاهِدٌ: بَكَّةُ هِيَ مَكَّةُ. فَالْمِيمُ عَلَى هَذَا مُبْدَلَةٌ مِنَ الْبَاءِ، كَمَا قَالُوا: طِينٌ لَازِبٌ وَلَازِمٌ. وَقَالَهُ الضَّحَّاكُ وَالْمُؤَرِّجُ. ثُمَّ قِيلَ: بَكَّةُ مُشْتَقَّةٌ مِنَ الْبَكِّ وَهُوَ الِازْدِحَامُ. تَبَاكَّ الْقَوْمُ ازْدَحَمُوا. وَسُمِّيَتْ بَكَّةَ لِازْدِحَامِ النَّاسِ فِي مَوْضِعِ طَوَافِهِمْ. وَالْبَكُّ دَقُّ الْعُنُقِ. وَقِيلَ: سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّهَا كَانَتْ تَدُقُّ رِقَابَ الْجَبَابِرَةِ إِذَا أَلْحَدُوا فِيهَا بِظُلْمٍ. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ: لَمْ يَقْصِدْهَا جَبَّارٌ قَطُّ بِسُوءٍ إِلَّا وَقَصَهُ «٢» اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ. وَأَمَّا مَكَّةُ فَقِيلَ: إِنَّهَا سُمِّيَتْ بِذَلِكَ [لِقِلَّةِ «٣» مَائِهَا وَقِيلَ: سُمِّيَتْ بِذَلِكَ] لِأَنَّهَا تَمُكُّ الْمُخَّ مِنَ الْعَظْمِ مِمَّا يَنَالُ قَاصِدُهَا مِنَ الْمَشَقَّةِ مِنْ قَوْلِهِمْ: مَكَكْتُ الْعَظْمَ إِذَا أَخْرَجْتُ مَا فِيهِ. وَمَكَّ الْفَصِيلُ ضَرْعَ أُمِّهِ وَامْتَكَّهُ إِذَا امْتَصَّ كُلَّ مَا فِيهِ مِنَ اللَّبَنِ وَشَرِبَهُ، قَالَ الشَّاعِرُ:

مَكَّتْ فَلَمْ تُبْقِ فِي أَجْوَافِهَا دِرَرًا

وَقِيلَ: سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّهَا تَمُكُّ مَنْ ظَلَمَ فِيهَا، أَيْ تُهْلِكُهُ وَتُنْقِصُهُ. وَقِيلَ: سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّ النَّاسَ كَانُوا يَمُكُّونَ وَيَضْحَكُونَ فِيهَا، مِنْ قَوْلِهِ:" وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكاءً وَتَصْدِيَةً"


(١). النهز: الدفع.
(٢). الوقص: الكسر والدق.
(٣). الزيادة في د.