للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

احْتَجَّتِ الْمَالِكِيَّةُ بِمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي آيَةِ الدَّيْنِ، وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى: (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ «١») وَهَذَانِ قَدْ تَعَاقَدَا. وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ إِبْطَالُ الْوَفَاءِ بِالْعُقُودِ. قَالُوا: وَقَدْ يَكُونُ التَّفَرُّقُ بِالْقَوْلِ كَعَقْدِ النِّكَاحِ وَوُقُوعِ الطَّلَاقِ الَّذِي قَدْ سَمَّاهُ اللَّهُ فِرَاقًا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (وَإِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ «٢») وَقَالَ تَعَالَى: (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا «٣») وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: (تَفْتَرِقُ أُمَّتِي) وَلَمْ يَقُلْ بِأَبْدَانِهَا. وَقَدْ رَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ قَالَ: سَمِعْتُ شُعَيْبًا يَقُولُ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو يَقُولُ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (أَيُّمَا رَجُلٍ ابْتَاعَ مِنْ رَجُلٍ بَيْعَةً فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْخِيَارِ حَتَّى يَتَفَرَّقَا مِنْ مَكَانِهِمَا إِلَّا أَنْ تَكُونَ صَفْقَةَ خِيَارٍ فَلَا يَحِلُّ لِأَحَدِهِمَا أَنْ يُفَارِقَ صَاحِبَهُ مَخَافَةَ أَنْ يُقِيلَهُ (. قَالُوا: فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ قَدْ تَمَّ الْبَيْعُ بَيْنَهُمَا قَبْلَ الِافْتِرَاقِ، لِأَنَّ الْإِقَالَةَ لَا تَصِحُّ إِلَّا فِيمَا قَدْ تَمَّ مِنَ الْبُيُوعِ. قَالُوا: وَمَعْنَى قَوْلِهِ (الْمُتَبَايِعَانِ بِالْخِيَارِ) أَيِ الْمُتَسَاوِمَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَعْقِدَا فَإِذَا عَقَدَا بطل الخيار فيه. والجواب- أماما اعْتَلُّوا بِهِ مِنَ الِافْتِرَاقِ بِالْكَلَامِ فَإِنَّمَا الْمُرَادُ بِذَلِكَ الْأَدْيَانُ كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي (آلِ عِمْرَانَ)، وَإِنْ كَانَ صَحِيحًا فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ فَهُوَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ غَيْرُ صَحِيحٍ. وَبَيَانُهُ أَنْ يُقَالَ: خَبِّرُونَا عَنِ الْكَلَامِ الَّذِي وَقَعَ بِهِ الِاجْتِمَاعُ وَتَمَّ بِهِ الْبَيْعُ، أَهُوَ الْكَلَامُ الَّذِي أُرِيدَ بِهِ الِافْتِرَاقُ أَمْ غَيْرُهُ؟ فَإِنْ قَالُوا: هُوَ غَيْرُهُ فَقَدْ أَحَالُوا وَجَاءُوا بِمَا لَا يُعْقَلُ، لِأَنَّهُ لَيْسَ ثَمَّ كَلَامٌ غَيْرُ ذَلِكَ. وَإِنْ قَالُوا: هُوَ ذَلِكَ الْكَلَامُ بِعَيْنِهِ قِيلَ لَهُمْ: كَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ الَّذِي بِهِ اجْتَمَعَا وَتَمَّ بِهِ بَيْعُهُمَا، بِهِ افْتَرَقَا، هَذَا عَيْنُ الْمُحَالِ وَالْفَاسِدِ مِنَ الْقَوْلِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: (وَلَا يَحِلُّ «٤» لَهُ أَنْ يُفَارِقَ صَاحِبَهُ مَخَافَةَ أَنْ يُقِيلَهُ) فَمَعْنَاهُ- إِنْ صَحَّ- عَلَى النَّدْبِ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ. (مَنْ أَقَالَ مُسْلِمًا أَقَالَهُ اللَّهُ عَثْرَتَهُ) وَبِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ يَحِلُّ لِفَاعِلِهِ عَلَى خِلَافِ ظَاهِرِ الْحَدِيثِ، وَلِإِجْمَاعِهِمْ أَنَّهُ جَائِزٌ لَهُ أَنْ يُفَارِقَهُ لِيَنْفُذَ بَيْعُهُ وَلَا يُقِيلَهُ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ. وَفِيمَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ رَدٌّ لِرِوَايَةِ مَنْ رَوَى (لَا يَحِلُّ) فَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَجْهُ هَذَا الْخَبَرِ النَّدْبُ، وَإِلَّا فَهُوَ بَاطِلٌ بِالْإِجْمَاعِ. وَأَمَّا تَأْوِيلُ (الْمُتَبَايِعَانِ) بِالْمُتَسَاوِمَيْنِ فَعُدُولٌ عَنْ ظاهر اللفظ، وإنما


(١). راجع ج ٦ ص ٣١.
(٢). راجع ص ٤٠٨ من هذا الجزء.
(٣). راجع ج ٤ ص ١٦٦.
(٤). كذا في كل الأصول.