للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

سَبَبُ نُزُولِهَا مَا رُوِيَ أَنَّ ثَابِتَ بْنَ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ تَفَاخَرَ هُوَ وَيَهُودِيٌّ، فَقَالَ الْيَهُودِيُّ: وَاللَّهِ لَقَدْ كُتِبَ عَلَيْنَا أَنْ نَقْتُلَ أَنْفُسَنَا فَقَتَلْنَا، وَبَلَغَتِ الْقَتْلَى سَبْعِينَ أَلْفًا، فَقَالَ ثَابِتٌ: وَاللَّهِ لَوْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْنَا أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ لَفَعَلْنَا. وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ السَّبِيعِيُّ: لَمَّا نَزَلَتْ (وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ) الْآيَةَ، قَالَ رَجُلٌ: لَوْ أُمِرْنَا لَفَعَلْنَا، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي عَافَانَا. فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: (إِنَّ مِنْ أُمَّتِي رِجَالًا الْإِيمَانُ أَثْبَتُ فِي قُلُوبِهِمْ مِنَ الْجِبَالِ الرَّوَاسِي). قَالَ ابْنُ وَهْبٍ قَالَ مَالِكٌ: الْقَائِلُ ذَلِكَ هُوَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَهَكَذَا ذَكَرَ مَكِّيٌّ أَنَّهُ أَبُو بَكْرٍ. وَذَكَرَ النَّقَّاشُ أَنَّهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَذُكِرَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: لَوْ كُتِبَ عَلَيْنَا ذَلِكَ لَبَدَأْتُ بِنَفْسِي وَأَهْلِ بَيْتِي. وَذَكَرَ أَبُو اللَّيْثِ السَّمَرْقَنْدِيُّ: أَنَّ الْقَائِلَ مِنْهُمْ عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَثَابِتُ بْنُ قَيْسٍ، قَالُوا: لَوْ أَنَّ اللَّهَ أَمَرَنَا أَنْ نَقْتُلَ أَنْفُسَنَا أَوْ نَخْرُجَ مِنْ دِيَارِنَا لَفَعَلْنَا، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (الْإِيمَانُ أَثْبَتُ فِي قلوب الرجال من الجبال الرواسي). و (لَوْ) حَرْفٌ يَدُلُّ عَلَى امْتِنَاعِ الشَّيْءِ لِامْتِنَاعِ غَيْرِهِ، فَأَخْبَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ لَمْ يَكْتُبْ ذَلِكَ عَلَيْنَا رِفْقًا بِنَا لِئَلَّا تَظْهَرَ مَعْصِيَتُنَا. فَكَمْ مِنْ أَمْرٍ قَصَّرْنَا عَنْهُ مَعَ خِفَّتِهِ فَكَيْفَ بِهَذَا الْأَمْرِ مَعَ ثِقَلِهِ! لَكِنْ أَمَا وَاللَّهِ لَقَدْ تَرَكَ الْمُهَاجِرُونَ مَسَاكِنَهُمْ خَاوِيَةً وَخَرَجُوا يَطْلُبُونَ بِهَا عِيشَةً رَاضِيَةً. (مَا فَعَلُوهُ) أَيِ الْقَتْلَ وَالْخُرُوجَ (إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ) (قَلِيلٌ) بَدَلٌ مِنَ الْوَاوِ، وَالتَّقْدِيرُ مَا فَعَلَهُ أَحَدٌ إِلَّا قَلِيلٌ. وَأَهْلُ الْكُوفَةِ يَقُولُونَ: هُوَ عَلَى التَّكْرِيرِ مَا فَعَلُوهُ مَا فَعَلَهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَامِرٍ وَعِيسَى بْنُ عُمَرَ (إِلَّا قَلِيلًا) عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ. وَكَذَلِكَ هُوَ فِي مَصَاحِفِ أَهْلِ الشَّامِ. الْبَاقُونَ بِالرَّفْعِ، وَالرَّفْعُ أَجْوَدُ عِنْدَ جَمِيعِ النَّحْوِيِّينَ. وَقِيلَ: انْتَصَبَ عَلَى إِضْمَارِ فِعْلٍ، تَقْدِيرُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ قَلِيلًا مِنْهُمْ. وَإِنَّمَا صَارَ الرَّفْعُ أَجْوَدَ لِأَنَّ اللَّفْظَ أَوْلَى مِنَ الْمَعْنَى، وَهُوَ أَيْضًا يَشْتَمِلُ عَلَى الْمَعْنَى. وَكَانَ مِنَ الْقَلِيلِ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَثَابِتُ بْنُ قَيْسٍ كَمَا ذَكَرْنَا. وَزَادَ الْحَسَنُ وَمُقَاتِلٌ وعمارا وَابْنَ مَسْعُودٍ وَقَدْ ذَكَرْنَاهُمَا. (وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ) أفي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. (وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً) أَيْ عَلَى الْحَقِّ. (وَإِذاً لَآتَيْناهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً) أَيْ ثَوَابًا فِي الْآخِرَةِ. وَقِيلَ: اللَّامُ لَامُ الْجَوَابِ، و (إِذاً) دَالَّةٌ عَلَى الْجَزَاءِ، وَالْمَعْنَى لَوْ فَعَلُوا مَا يوعظون به لاتيناهم.