للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الرَّابِعَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ) ذَكَرَ بَعْدَ خَلْقِ الْجَوَاهِرِ خَلْقَ الْأَعْرَاضِ لِكَوْنِ الْجَوْهَرِ لَا يَسْتَغْنِي عَنْهُ وَمَا لَا يَسْتَغْنِي عَنِ الْحَوَادِثِ فَهُوَ حَادِثٌ. وَالْجَوْهَرُ فِي اصْطِلَاحِ الْمُتَكَلِّمِينَ هُوَ الْجُزْءُ الَّذِي لَا يَتَجَزَّأُ الْحَامِلُ لِلْعَرَضِ وَقَدْ أَتَيْنَا عَلَى ذِكْرِهِ فِي الْكِتَابِ الْأَسْنَى فِي شَرْحِ أَسْمَاءِ اللَّهِ الْحُسْنَى فِي اسْمِهِ" الْوَاحِدِ". وَسُمِّيَ الْعَرَضُ عَرَضًا لِأَنَّهُ يَعْرِضُ فِي الْجِسْمِ وَالْجَوْهَرِ فَيَتَغَيَّرُ بِهِ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ وَالْجِسْمُ هُوَ الْمُجْتَمَعُ وَأَقَلُّ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ الْجِسْمِ جَوْهَرَانِ مُجْتَمِعَانِ وَهَذِهِ الِاصْطِلَاحَاتُ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مَوْجُودَةً فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ فَقَدْ دَلَّ عَلَيْهَا مَعْنَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَلَا مَعْنَى لِإِنْكَارِهَا. وَقَدِ اسْتَعْمَلَهَا الْعُلَمَاءُ وَاصْطَلَحُوا عَلَيْهَا وَبَنَوْا عَلَيْهَا كَلَامَهُمْ وَقَتَلُوا بِهَا خُصُومَهُمْ كَمَا تَقَدَّمَ فِي" الْبَقَرَةِ". وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْمَعْنَى الْمُرَادِ بِالظُّلُمَاتِ وَالنُّورِ فَقَالَ السُّدِّيُّ وَقَتَادَةُ وَجُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ: الْمُرَادُ سَوَادُ اللَّيْلِ وَضِيَاءُ النَّهَارِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: الْكُفْرُ وَالْإِيمَانُ قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا خُرُوجٌ عَنِ الظَّاهِرِ. قُلْتُ: اللَّفْظُ يَعُمُّهُ وَفِي التَّنْزِيلِ:" أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ" «١»] الانعام: ١٢٢]. وَالْأَرْضُ هُنَا اسْمٌ لِلْجِنْسِ فَإِفْرَادُهَا فِي اللَّفْظِ بِمَنْزِلَةِ جَمْعِهَا وَكَذَلِكَ" وَالنُّورَ" وَمِثْلُهُ" ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا" «٢»] غافر: ٦٧] وَقَالَ الشَّاعِرُ:

كُلُوا فِي بَعْضِ بَطْنِكُمْ تَعِفُّوا

وَقَدْ تَقَدَّمَ «٣». وَجَعَلَ هُنَا بِمَعْنَى خَلَقَ لَا يَجُوزُ غَيْرُهُ قَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ. قُلْتُ: وَعَلَيْهِ يَتَّفِقُ اللَّفْظُ وَالْمَعْنَى فِي النَّسَقِ فَيَكُونُ الْجَمْعُ مَعْطُوفًا عَلَى الْجَمْعِ وَالْمُفْرَدُ مَعْطُوفًا عَلَى الْمُفْرَدِ فَيَتَجَانَسُ اللَّفْظُ وَتَظْهَرُ الْفَصَاحَةُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَقِيلَ: جَمَعَ" الظُّلُماتِ" وَوَحَّدَ" النُّورَ" لِأَنَّ الظُّلُمَاتِ لَا تَتَعَدَّى وَالنُّورَ يَتَعَدَّى. وَحَكَى الثَّعْلَبِيُّ أَنَّ بَعْضَ أَهْلِ الْمَعَانِي قَالَ:" جَعَلَ" هُنَا زَائِدَةً وَالْعَرَبُ تَزِيدُ" جَعَلَ" فِي الْكَلَامِ كَقَوْلِ الشَّاعِرِ:

وَقَدْ جَعَلْتُ أَرَى الِاثْنَيْنِ أَرْبَعَةً ... وَالْوَاحِدَ «٤» اثْنَيْنِ لَمَّا هدني الكبر


(١). راجع ج ٧ ص ٧٨.
(٢). راجع ج ١٢ ص ١١.
(٣). تمام البيت:
فإن زمانكم زمن خميص

يقول الشاعر: كلوا في بعض بطنكم حتى تعتادوا ذلك فإن الزمان ذو مخمصة وجدب.
(٤). ورد البيت في ج ١ ص ٢٢٨ (والأربع اثنين) والصواب ما هنا.