للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ) يُقَالُ: لِمَ ذُمُّوا عَلَى النِّسْيَانِ وَلَيْسَ مِنْ فِعْلِهِمْ؟ فَالْجَوَابُ: أَنَّ (نَسُوا) بِمَعْنَى تَرَكُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ جُرَيْجٍ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيٍّ، وَذَلِكَ لِأَنَّ التَّارِكَ لِلشَّيْءِ إِعْرَاضًا عَنْهُ قَدْ صَيَّرَهُ بِمَنْزِلَةِ مَا قَدْ نَسِيَ، كَمَا يُقَالُ: تَرَكَهُ. فِي النَّسْيِ. جَوَابٌ آخَرُ: وَهُوَ أَنَّهُمْ تَعَرَّضُوا لِلنِّسْيَانِ فَجَازَ الذَّمُّ لِذَلِكَ، كَمَا جَازَ الذَّمُّ عَلَى التَّعَرُّضِ لسخط الله عز وجل وعقابه. ومعنى (فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ) أَيْ مِنَ النِّعَمِ وَالْخَيْرَاتِ، أَيْ كَثَّرْنَا لَهُمْ ذَلِكَ. وَالتَّقْدِيرُ عِنْدَ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ: فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شي كَانَ مُغْلَقًا عَنْهُمْ. (حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا) مَعْنَاهُ بَطِرُوا وَأَشِرُوا وَأُعْجِبُوا وَظَنُّوا أَنَّ ذَلِكَ الْعَطَاءَ لَا يَبِيدُ، وَأَنَّهُ دَالٌّ عَلَى رِضَاءِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَنْهُمْ (أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً) أَيِ اسْتَأْصَلْنَاهُمْ وَسَطَوْنَا بِهِمْ. وَ (بَغْتَةً) مَعْنَاهُ فَجْأَةً، وَهِيَ الْأَخْذُ عَلَى غِرَّةٍ وَمِنْ غَيْرِ تقدم أمارة، فإذا أخذ لإنسان وَهُوَ غَارٌ غَافِلٌ فَقَدْ أُخِذَ بَغْتَةً، وَأَنْكَى شي مَا يَفْجَأُ مِنَ الْبَغْتِ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ التَّذْكِيرَ الَّذِي سَلَفَ- فَأَعْرَضُوا عَنْهُ- قَامَ مَقَامَ الْإِمَارَةِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَ (بَغْتَةً) مَصْدَرٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ لَا يُقَاسَ عَلَيْهِ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ كَمَا تَقَدَّمَ، فَكَانَ ذَلِكَ اسْتِدْرَاجًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا قَالَ:" وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ" «١»] الأعراف: ١٨٣] نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ سَخَطِهِ وَمَكْرِهِ. قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: رَحِمَ اللَّهُ عَبْدًا تَدَبَّرَ هَذِهِ الْآيَةَ" حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً". وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ النَّضْرِ الْحَارِثِيُّ: أُمْهِلَ هَؤُلَاءِ الْقَوْمُ عِشْرِينَ سَنَةً. وَرَوَى عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (إِذَا رَأَيْتُمُ اللَّهَ تَعَالَى يُعْطِي الْعِبَادَ مَا يَشَاءُونَ عَلَى مَعَاصِيهِمْ فَإِنَّمَا ذَلِكَ اسْتِدْرَاجٌ مِنْهُ لَهُمْ) ثُمَّ تَلَا" فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ" الْآيَةَ كُلَّهَا. وَقَالَ الْحَسَنُ: وَاللَّهِ مَا أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ بَسَطَ اللَّهُ لَهُ فِي الدُّنْيَا فَلَمْ يَخَفْ أَنْ يَكُونَ قَدْ مُكِرَ لَهُ فِيهَا إِلَّا كَانَ قَدْ نَقَصَ عَمَلُهُ، وَعَجَزَ رَأْيُهُ. وَمَا أَمْسَكَهَا اللَّهُ عَنْ عَبْدٍ فَلَمْ يَظُنَّ أَنَّهُ خَيْرٌ لَهُ فِيهَا «٢» إِلَّا كَانَ قَدْ نَقَصَ عَمَلُهُ، وَعَجَزَ رَأْيُهُ. وَفِي الْخَبَرِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْحَى إِلَى مُوسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِذَا رَأَيْتَ الْفَقْرَ مُقْبِلًا إِلَيْكَ فَقُلْ مَرْحَبًا بِشِعَارِ الصَّالِحِينَ وَإِذَا رَأَيْتَ الْغِنَى مُقْبِلًا إِلَيْكَ فَقُلْ ذَنْبٌ عُجِّلَتْ عُقُوبَتُهُ (. قَوْلُهُ تَعَالَى:) فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ) الْمُبْلِسُ الْبَاهِتُ الْحَزِينُ الْآيِسُ مِنَ الْخَيْرِ الَّذِي لَا يُحِيرُ جَوَابًا لِشِدَّةِ مَا نَزَلَ بِهِ مِنْ سوء الحال، قال العجاج:


(١). راجع ج ٧ ص ٣٢٩.
(٢). في ج: في ذلك.