للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

زَيْدٌ. فَلَيْسَ هَذَا عَيْنَ الْجَوَابِ، بَلْ هُوَ كَلَامٌ يَرْجِعُ إِلَى مَعْنَى الْجَوَابِ. (خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) فَرَأَى أَنَّ النَّارَ أَشْرَفُ مِنَ الطِّينِ، لِعُلُوِّهَا وَصُعُودِهَا وَخِفَّتِهَا، وَلِأَنَّهَا جَوْهَرٌ مُضِيءٌ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ وَابْنُ سِيرِينَ: أَوَّلُ مَنْ قَاسَ إِبْلِيسُ فَأَخْطَأَ الْقِيَاسَ. فمن قاس الدين برأيه قرنه مَعَ إِبْلِيسَ. قَالَ ابْنُ سِيرِينَ: وَمَا عُبِدَتِ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ إِلَّا بِالْمَقَايِيسِ. وَقَالَتِ الْحُكَمَاءُ: أَخْطَأَ عَدُوُّ اللَّهِ مِنْ حَيْثُ فَضَّلَ النَّارَ عَلَى الطِّينِ، وَإِنْ كَانَا فِي دَرَجَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ حَيْثُ هِيَ جَمَادٌ مَخْلُوقٌ. فَإِنَّ الطِّينَ أَفْضَلُ مِنَ النَّارِ مِنْ وُجُوهٍ أَرْبَعَةٍ: أَحَدُهَا- أَنَّ مِنْ جَوْهَرِ الطِّينِ الرَّزَانَةَ وَالسُّكُونَ، وَالْوَقَارَ وَالْأَنَاةَ، وَالْحِلْمَ، وَالْحَيَاءَ، وَالصَّبْرَ. وَذَلِكَ هُوَ الدَّاعِي لِآدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بَعْدَ السَّعَادَةِ الَّتِي سَبَقَتْ لَهُ إِلَى التَّوْبَةِ وَالتَّوَاضُعِ وَالتَّضَرُّعِ، فَأَوْرَثَهُ الْمَغْفِرَةَ وَالِاجْتِبَاءَ وَالْهِدَايَةَ. وَمِنْ جَوْهَرِ النَّارِ الْخِفَّةُ، وَالطَّيْشُ، وَالْحِدَّةُ، وَالِارْتِفَاعُ، وَالِاضْطِرَابُ. وَذَلِكَ هُوَ الدَّاعِي لِإِبْلِيسَ بَعْدَ الشَّقَاوَةِ الَّتِي سَبَقَتْ لَهُ إِلَى الِاسْتِكْبَارِ وَالْإِصْرَارِ، فأورثه الهلاك والعذاب واللعنة والشقاء، قال الْقَفَّالُ. الثَّانِي- أَنَّ الْخَبَرَ نَاطِقٌ بِأَنَّ تُرَابَ الْجَنَّةِ مِسْكٌ أَذْفَرُ، وَلَمْ يَنْطِقِ الْخَبَرُ بِأَنَّ فِي الْجَنَّةِ نَارًا وَأَنَّ فِي النَّارِ تُرَابًا. الثَّالِثُ- أَنَّ النَّارَ سَبَبُ الْعَذَابِ، وَهِيَ عَذَابُ اللَّهِ لِأَعْدَائِهِ، وَلَيْسَ التُّرَابُ سَبَبًا لِلْعَذَابِ. الرَّابِعُ- أَنَّ الطِّينَ مُسْتَغْنٍ عَنِ النَّارِ، وَالنَّارَ مُحْتَاجَةٌ إلى المكان ومكانها التراب. قلت- ومحتمل قَوْلًا خَامِسًا وَهُوَ أَنَّ التُّرَابَ مَسْجِدٌ وَطَهُورٌ، كَمَا جَاءَ فِي صَحِيحِ الْحَدِيثِ. وَالنَّارُ تَخْوِيفٌ وَعَذَابٌ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:" ذلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبادَهُ «١» ". وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَتِ الطَّاعَةُ أَوْلَى بِإِبْلِيسَ مِنَ الْقِيَاسِ فَعَصَى رَبَّهُ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ قَاسَ بِرَأْيِهِ. وَالْقِيَاسُ فِي مُخَالَفَةِ النَّصِّ مَرْدُودٌ. الرَّابِعَةُ- وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي الْقِيَاسِ إِلَى قَائِلٍ بِهِ، وَرَادٍّ لَهُ، فَأَمَّا الْقَائِلُونَ بِهِ فَهُمُ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ، وَجُمْهُورُ مَنْ بَعْدَهُمْ، وَأَنَّ التَّعَبُّدَ بِهِ جَائِزٌ عَقْلًا وَاقِعٌ شَرْعًا، وهو الصحيح.


(١). راجع ج ١٥ ص ٢٤٣.