للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا- أَنَّ الْخَوْفَ قَدْ يَأْتِي بِمَعْنَى الْيَقِينِ، كَمَا قَدْ يَأْتِي الرَّجَاءُ بِمَعْنَى الْعِلْمِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً" «١» [نوح: ١٣]. الثَّانِي- إِذَا ظَهَرَتْ آثَارُ الْخِيَانَةِ وَثَبَتَتْ دَلَائِلُهَا، وَجَبَ نَبْذُ الْعَهْدِ لِئَلَّا يُوقِعَ التَّمَادِي عَلَيْهِ فِي الْهَلَكَةِ، وَجَازَ إِسْقَاطُ الْيَقِينِ هُنَا ضَرُورَةً. وَأَمَّا إِذَا عُلِمَ الْيَقِينُ فَيُسْتَغْنَى عَنْ نَبْذِ الْعَهْدِ إِلَيْهِمْ، وَقَدْ سَارَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى أَهْلِ مَكَّةَ عَامَ الْفَتْحِ، لَمَّا اشْتُهِرَ مِنْهُمْ نَقْضُ الْعَهْدِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْبِذَ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ. وَالنَّبْذُ: الرَّمْيُ وَالرَّفْضُ. وَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ: مَعْنَاهُ إِذَا عَاهَدْتَ قَوْمًا فَعَلِمْتَ مِنْهُمُ النَّقْضَ بِالْعَهْدِ فَلَا تُوقِعْ بِهِمْ سَابِقًا إِلَى النَّقْضِ حَتَّى تُلْقِيَ إِلَيْهِمْ أَنَّكَ قَدْ نقضت العهد والموادعة، فَيَكُونُوا فِي عِلْمِ النَّقْضِ مُسْتَوِيِينَ، ثُمَّ أَوْقِعْ بِهِمْ. قَالَ النَّحَّاسُ: هَذَا مِنْ مُعْجِزِ مَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ مِمَّا لَا يُوجَدُ فِي الْكَلَامِ مِثْلُهُ عَلَى اخْتِصَارِهِ وَكَثْرَةِ مَعَانِيهِ. وَالْمَعْنَى: وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُمْ عَهْدٌ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمُ الْعَهْدَ، أَيْ قُلْ لَهُمْ قَدْ نَبَذْتُ إِلَيْكُمْ عَهْدَكُمْ، وَأَنَا مُقَاتِلُكُمْ، لِيَعْلَمُوا ذَلِكَ فَيَكُونُوا مَعَكَ فِي الْعِلْمِ سَوَاءً، وَلَا تُقَاتِلْهُمْ وَبَيْنَكَ وَبَيْنَهُمْ عَهْدٌ وَهُمْ يَثِقُونَ بِكَ، فَيَكُونُ ذَلِكَ خِيَانَةً وَغَدْرًا. ثُمَّ بَيَّنَ هَذَا بِقَوْلِهِ:" إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخائِنِينَ". قُلْتُ: مَا ذَكَرَهُ الْأَزْهَرِيُّ وَالنَّحَّاسُ مِنْ إِنْبَاذِ الْعَهْدِ مَعَ الْعِلْمِ بِنَقْضِهِ يَرُدُّهُ فَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي فَتْحِ مَكَّةَ، فَإِنَّهُمْ لَمَّا نَقَضُوا لَمْ يُوَجِّهْ إِلَيْهِمْ بَلْ قَالَ: (اللهم اقطع خبر عَنْهُمْ) وَغَزَاهُمْ. وَهُوَ أَيْضًا مَعْنَى الْآيَةِ، لِأَنَّ فِي قَطْعِ الْعَهْدِ مِنْهُمْ وَنَكْثِهِ مَعَ الْعِلْمِ بِهِ حُصُولُ نَقْضِ عَهْدِهِمْ وَالِاسْتِوَاءِ مَعَهُمْ. فَأَمَّا مَعَ غَيْرِ الْعِلْمِ بِنَقْضِ الْعَهْدِ مِنْهُمْ فَلَا يَحِلُّ وَلَا يَجُوزُ. رَوَى التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ عَنْ سُلَيْمِ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: كَانَ بَيْنَ مُعَاوِيَةَ وَالرُّومِ عَهْدٌ وَكَانَ يَسِيرُ نَحْوَ بِلَادِهِمْ لِيَقْرُبَ حَتَّى إِذَا انْقَضَى الْعَهْدُ غَزَاهُمْ، فَجَاءَهُ رَجُلٌ عَلَى فَرَسٍ أَوْ بِرْذَوْنٍ وَهُوَ يَقُولُ: اللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُ أَكْبَرُ، [وَفَاءٌ لَا غَدْرُ [«٢»، فَنَظَرُوا فَإِذَا هُوَ عَمْرُو بْنُ عَنْبَسَةَ، فَأَرْسَلَ إليه معاومة فسأله فَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (مَنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْمٍ عَهْدٌ فَلَا يَشُدَّ عُقْدَةً وَلَا يَحُلَّهَا حَتَّى يَنْقَضِيَ أَمَدُهَا أَوْ يَنْبِذَ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ) فَرَجَعَ مُعَاوِيَةُ بِالنَّاسِ. قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حسن صحيح. والسواء: المساواة والاعتدال.


(١). راجع ج ١٨ ص ٣٠٣. [ ..... ]
(٢). زيادة عن سنن الترمذي وأبي داود.