للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

ذَلِكَ أَرَادَ أَنْ يَجْتَهِدَ فِي النَّازِلَةِ. وَيُفِيدُ هَذَا صِحَّةَ مَا قَالَهُ الْأُصُولِيُّونَ: إِنَّ الْمُجْتَهِدَ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُجَدِّدَ نَظَرًا عِنْدَ وُقُوعِ النَّازِلَةِ، وَلَا يَعْتَمِدَ عَلَى اجْتِهَادِهِ الْمُتَقَدِّمِ لِإِمْكَانِ أَنْ يَظْهَرَ لَهُ ثَانِيًا خِلَافُ مَا ظَهَرَ لَهُ أَوَّلًا، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يَكُونَ ذَاكِرًا لِأَرْكَانِ اجْتِهَادِهِ، مَائِلًا إِلَيْهِ، فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى اسْتِئْنَافِ نَظَرٍ فِي أَمَارَةٍ أُخْرَى. التَّاسِعَةُ- إِنَّمَا يكون يَكُونُ الْأَجْرُ لِلْحَاكِمِ الْمُخْطِئِ إِذَا كَانَ عَالِمًا بِالِاجْتِهَادِ وَالسُّنَنِ وَالْقِيَاسِ، وَقَضَاءِ مَنْ مَضَى لِأَنَّ اجْتِهَادَهُ عِبَادَةٌ وَلَا يُؤْجَرُ عَلَى الْخَطَأِ بَلْ يُوضَعُ عَنْهُ الْإِثْمُ فَقَطْ، فَأَمَّا مَنْ لَمْ يَكُنْ مَحَلًّا لِلِاجْتِهَادِ فَهُوَ مُتَكَلِّفٌ لَا يُعْذَرُ بِالْخَطَأِ فِي الْحُكْمِ، بَلْ يُخَافُ عَلَيْهِ أَعْظَمُ الْوِزْرِ. يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ حَدِيثُهُ الْآخَرُ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ: (الْقُضَاةُ ثَلَاثَةٌ) الْحَدِيثَ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: إِنَّمَا يُؤْجَرُ عَلَى اجْتِهَادِهِ فِي طَلَبِ الصَّوَابِ لَا عَلَى الْخَطَأِ، وَمِمَّا يُؤَيِّدُ هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى:" فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ" الْآيَةَ. قَالَ الْحَسَنُ: أَثْنَى عَلَى سُلَيْمَانَ وَلَمْ يَذُمَّ دَاوُدَ. الْعَاشِرَةُ- ذَكَرَ أَبُو التَّمَّامِ الْمَالِكِيِّ أَنَّ مَذْهَبَ مَالِكٍ أَنَّ الْحَقَّ فِي وَاحِدٍ مِنْ أَقَاوِيلِ الْمُجْتَهِدِينَ وَلَيْسَ ذَلِكَ فِي أَقَاوِيلِ الْمُخْتَلِفِينَ، وَبِهِ قَالَ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ. قَالَ: وَحَكَى ابْنُ الْقَاسِمِ أَنَّهُ سَأَلَ مَالِكًا عَنِ اخْتِلَافِ الصَّحَابَةِ، فَقَالَ: مُخْطِئٌ وَمُصِيبٌ، وَلَيْسَ الْحَقُّ فِي جَمِيعِ أَقَاوِيلِهِمْ. وَهَذَا الْقَوْلُ قِيلَ: هُوَ الْمَشْهُورُ عَنْ مَالِكٍ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ. وَاحْتَجَّ مَنْ قَالَ هَذَا بِحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، قَالُوا: وَهُوَ نَصٌّ عَلَى أَنَّ فِي الْمُجْتَهِدِينَ وَفِي الْحَاكِمِينَ مُخْطِئًا وَمُصِيبًا، قَالُوا: وَالْقَوْلُ بِأَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ يُؤَدِّي إِلَى كَوْنِ الشَّيْءِ حَلَالًا حَرَامًا، وَوَاجِبًا نَدْبًا. وَاحْتَجَّ أَهْلُ الْمَقَالَةِ الْأُولَى بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ. قَالَ: نَادَى فِينَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ انْصَرَفَ مِنَ الْأَحْزَابِ (أَلَا لَا يُصَلِّيَنَّ أَحَدٌ الْعَصْرَ إِلَّا فِي بَنِي قُرَيْظَةَ) فَتَخَوَّفَ نَاسٌ فَوْتَ الْوَقْتِ فَصَلُّوا دُونَ بَنِي قُرَيْظَةَ، وَقَالَ الْآخَرُونَ: لَا نُصَلِّي إِلَّا حَيْثُ أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنْ فَاتَنَا الْوَقْتُ، قَالَ: فَمَا عَنَّفَ وَاحِدًا مِنَ الْفَرِيقَيْنِ، قَالُوا: فَلَوْ كَانَ أَحَدُ الْفَرِيقَيْنِ مُخْطِئًا لَعَيَّنَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: لَعَلَّهُ إِنَّمَا سَكَتَ عَنْ تَعْيِينِ الْمُخْطِئِينَ لِأَنَّهُ غَيْرُ آثِمٍ بَلْ مَأْجُورٌ،