للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ) أَيْ فَوِّضْ إِلَيْهِ أَمْرَكَ وَاعْتَمِدْ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ نَاصِرُكَ. (إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ) أَيِ الظَّاهِرُ. وَقِيلَ: الْمُظْهِرُ لمن تدبر وَجْهَ الصَّوَابِ. (إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتى) يَعْنِي الْكُفَّارَ لِتَرْكِهِمُ التَّدَبُّرَ، فَهُمْ كَالْمَوْتَى لَا حِسَّ لَهُمْ وَلَا عَقْلَ. وَقِيلَ: هَذَا فِيمَنْ عَلِمَ أَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ. (وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ) يَعْنِي الْكُفَّارَ الَّذِينَ هُمْ بِمَنْزِلَةِ الصُّمِّ عَنْ قَبُولِ الْمَوَاعِظِ، فَإِذَا دُعُوا إِلَى الْخَيْرِ أَعْرَضُوا وَوَلَّوْا كَأَنَّهُمْ لَا يَسْمَعُونَ، نَظِيرُهُ" صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ" كَمَا تَقَدَّمَ. وَقَرَأَ ابْنُ مُحَيْصِنٍ وَحُمَيْدٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ وَعَبَّاسٌ عَنْ أَبِي عَمْرٍو" وَلَا يَسْمَعُ" بِفَتْحِ الْيَاءِ وَالْمِيمِ" الصُّمُّ" رَفْعًا عَلَى الْفَاعِلِ. الْبَاقُونَ" تُسْمِعُ" مُضَارِعُ أَسْمَعْتَ" الصُّمَّ" نَصْبًا. مَسْأَلَةٌ: وَقَدِ احْتَجَّتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فِي إِنْكَارِهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَسْمَعَ مَوْتَى بَدْرٍ بِهَذِهِ الْآيَةِ، فَنَظَرَتْ فِي الْأَمْرِ بِقِيَاسٍ عَقْلِيٍّ وَوَقَفَتْ مَعَ هَذِهِ الْآيَةِ. وَقَدْ صَحَّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ:" مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ مِنْهُمْ" قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: فَيُشْبِهُ أَنَّ قِصَّةَ بَدْرٍ خَرْقُ عَادَةٍ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَنْ رَدَّ اللَّهُ إِلَيْهِمْ إِدْرَاكًا سَمِعُوا بِهِ مَقَالَهُ وَلَوْلَا أَخْبَارَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَمَاعِهِمْ لَحَمَلْنَا نِدَاءَهُ إِيَّاهُمْ عَلَى مَعْنَى التَّوْبِيخِ لِمَنْ بَقِيَ مِنَ الْكَفَرَةِ، وَعَلَى مَعْنَى شِفَاءِ صُدُورِ الْمُؤْمِنِينَ. قُلْتُ: رَوَى الْبُخَارِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ سَمِعَ رَوْحَ بْنَ عُبَادَةَ قَالَ حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: ذَكَرَ لَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ عَنْ أَبِي طَلْحَةَ أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ يَوْمَ بَدْرٍ بِأَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ رَجُلًا مِنْ صَنَادِيدِ قُرَيْشٍ فَقُذِفُوا فِي طَوِيٍّ مِنْ أَطْوَاءِ بَدْرٍ خَبِيثٍ مُخْبَثٍ، وَكَانَ إِذَا ظَهَرَ عَلَى قَوْمٍ أَقَامَ بِالْعَرْصَةِ ثَلَاثَ لَيَالٍ، فَلَمَّا كَانَ بِبَدْرٍ الْيَوْمُ الثَّالِثُ أَمَرَ بِرَاحِلَتِهِ فَشُدَّ عَلَيْهَا رَحْلَهَا ثُمَّ مَشَى وَتَبِعَهُ أَصْحَابُهُ، قَالُوا: مَا نَرَى يَنْطَلِقُ إِلَّا لِبَعْضِ حَاجَتِهِ، حَتَّى قَامَ عَلَى شَفِيرِ الرَّكِيِّ، فَجَعَلَ يُنَادِيهِمْ بِأَسْمَائِهِمْ وَأَسْمَاءِ آبَائِهِمْ يَا فُلَانُ بْنَ فُلَانٍ وَيَا فُلَانُ بْنَ فُلَانٍ أَيَسُرُّكُمْ أَنَّكُمْ أَطَعْتُمُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، فَإِنَّا قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا، قَالَ فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! مَا تُكَلِّمُ مِنْ أَجْسَادٍ لَا أَرْوَاحَ لَهَا، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ لِمَا أَقُولُ مِنْهُمْ" قَالَ قَتَادَةُ: أَحْيَاهُمُ اللَّهُ حَتَّى أَسْمَعَهُمْ قَوْلَهُ تَوْبِيخًا وَتَصْغِيرًا وَنِقْمَةً وَحَسْرَةً وَنَدَمًا. خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ