للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مِنْ خَلْقِهِ أَنْ يَخْتَارَ عَلَيْهِ وَأَجَازَ الزَّجَّاجُ وَغَيْرُهُ أَنْ تَكُونَ" مَا" مَنْصُوبَةٌ بِ" يَخْتارُ". وَأَنْكَرَ الطَّبَرِيُّ أَنْ تَكُونَ" مَا" نَافِيةً، لِئَلَّا يَكُونَ الْمَعْنَى إِنَّهُمْ لَمْ تَكُنْ لَهُمُ الْخِيَرَةُ فِيمَا مَضَى وَهِيَ لَهُمْ فِيمَا يُسْتَقْبَلُ، وَلِأَنَّهُ لَمْ يَتَقَدَّمْ كَلَامٌ بِنَفْيٍ. قَالَ الْمَهْدِيُّ: وَلَا يَلْزَمُ ذَلِكَ، لِأَنَّ" مَا" تَنْفِي الْحَالَ وَالِاسْتِقْبَالَ كليس وَلِذَلِكَ عَمِلَتْ عَمَلَهَا، وَلِأَنَّ الْآيَ كَانَتْ تَنْزِلُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَا يُسْأَلُ عَنْهُ، وَعَلَى مَا هُمْ مُصِرُّونَ عَلَيْهِ مِنَ الْأَعْمَالِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ فِي النَّصِّ. وَتَقْدِيرُ الْآيَةِ عِنْدَ الطَّبَرِيِّ: وَيَخْتَارُ لِوِلَايَتِهِ الْخِيَرَةَ مِنْ خَلْقِهِ، لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا يَخْتَارُونَ خِيَارَ أَمْوَالِهِمْ فَيَجْعَلُونَهَا لِآلِهَتِهِمْ، فَقَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى:" وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشاءُ وَيَخْتارُ" لِلْهِدَايَةِ مِنْ خَلْقِهِ مَنْ سَبَقَتْ لَهُ السَّعَادَةُ فِي عِلْمِهِ، كَمَا اخْتَارَ الْمُشْرِكُونَ خِيَارَ أَمْوَالِهِمْ لِآلِهَتِهِمْ، فَ" مَا" عَلَى هَذَا لِمَنْ يَعْقِلُ وهي بمعنى الذي و" الْخِيَرَةُ" رفع بالابتداءو" لَهُمُ" الخبر والجملة خبر" كانَ". وشبهه بقولك: كان زيد أبوه منطلق وفيه ضعف، إذا لَيْسَ فِي الْكَلَامِ عَائِدٌ يَعُودُ عَلَى اسْمِ كَانَ إِلَّا أَنْ يُقَدَّرَ فِيهِ حَذْفٌ فَيَجُوزُ عَلَى بُعْدٍ. وَقَدْ رُوِيَ مَعْنَى مَا قَالَهُ الطبري عن ابن عباس قال الثعلبي:" مَا" نَفْيٌ أَيْ لَيْسَ لَهُمُ الِاخْتِيَارُ عَلَى اللَّهِ. وَهَذَا أَصْوَبُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:" وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ". قَالَ مَحْمُودُ الْوَرَّاقِ:

تَوَكَّلْ عَلَى الرَّحْمَنِ فِي كُلِّ حَاجَةٍ ... أَرَدْتَ فَإِنَّ اللَّهَ يَقْضِي وَيَقْدِرُ

إِذَا مَا يُرِدْ ذُو الْعَرْشِ أَمْرًا بِعَبْدِهِ ... يُصِبْهُ وَمَا لِلْعَبْدِ «١» مَا يَتَخَيَّرُ

وَقَدْ يَهْلِكُ الإنسان ومن وَجْهِ حِذْرِهِ ... وَيَنْجُو بِحَمْدِ اللَّهِ مِنْ حَيْثُ يَحْذَرُ «٢»

وَقَالَ آخَرُ:

الْعَبْدُ ذُو ضَجَرٍ وَالرَّبُّ ذُو قَدَرٍ ... وَالدَّهْرُ ذُو دُوَلٍ وَالرِّزْقُ مَقْسُومُ

والخير أجمع فيها اخْتَارَ خَالِقُنَا ... وَفِي اخْتِيَارِ سِوَاهُ اللَّوْمُ وَالشُّومُ

قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يقدر عَلَى أَمْرٍ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا حَتَّى يَسْأَلَ اللَّهَ الْخِيَرَةَ فِي ذَلِكَ بِأَنْ يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ صَلَاةَ الِاسْتِخَارَةِ يَقْرَأُ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى بَعْدَ الفاتحة" قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ"


(١). في بعض نسخ الأصل: وما للعبد لا يتخير. والتصحيح من النسخة الخيرية.
(٢). لعل صواب البيت: وينجو بحمد الله من ليس يحذر. وهذا ما يفيده معنى التوكل.