للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

قَالَ: فَسُهِمَ، فَجَاءَ الْحُوتُ يُبَصْبِصُ بِذَنَبِهِ، فَنُودِيَ الْحُوتُ: أَيَا حُوتُ! إِنَّا لَمْ نَجْعَلْ لَكَ يُونُسَ رِزْقًا، إِنَّمَا جَعَلْنَاكَ لَهُ حِرْزًا وَمَسْجِدًا. قَالَ: فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ مِنْ ذَلِكَ الْمَكَانِ حَتَّى مَرَّ بِهِ إِلَى الْأُبُلَّةِ، ثُمَّ انْطَلَقَ بِهِ حَتَّى مَرَّ بِهِ عَلَى دِجْلَةَ، ثُمَّ انْطَلَقَ حتى ألقاه في نينوى. حدثنا الحرث قَالَ حَدَّثَنَا الْحَسَنُ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو هِلَالٍ قَالَ حَدَّثَنَا شَهْرُ بْنُ حَوْشَبٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إِنَّمَا كَانَتْ رِسَالَةُ يُونُسَ بَعْدَ مَا نَبَذَهُ الْحُوتُ، وَاسْتَدَلَّ هَؤُلَاءِ بِأَنَّ الرَّسُولَ لَا يَخْرُجُ مُغَاضِبًا لِرَبِّهِ، فَكَانَ مَا جَرَى مِنْهُ قَبْلَ النُّبُوَّةِ. وَقَالَ آخَرُونَ: كَانَ ذَلِكَ مِنْهُ بَعْدَ دُعَائِهِ مَنْ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ إِلَى مَا أَمَرَهُ اللَّهُ بِدُعَائِهِمْ إِلَيْهِ، وَتَبْلِيغِهِ إِيَّاهُمْ رِسَالَةَ رَبِّهِ، وَلَكِنَّهُ وَعَدَهُمْ نُزُولَ مَا كَانَ حَذَّرَهُمْ مِنْ بَأْسِ اللَّهِ فِي وَقْتٍ وَقَّتَهُ لَهُمْ فَفَارَقَهُمْ إِذْ لَمْ يَتُوبُوا وَلَمْ يُرَاجِعُوا طَاعَةَ اللَّهِ، فَلَمَّا أَظَلَّ الْقَوْمَ الْعَذَابُ وَغَشِيَهُمْ- كما قال الله تعالى في تنزيله- تُوبُوا إِلَى اللَّهِ، فَرَفَعَ اللَّهُ الْعَذَابَ عَنْهُمْ، وَبَلَغَ يُونُسَ سَلَامَتُهُمْ وَارْتِفَاعُ الْعَذَابِ الَّذِي كَانَ وَعَدَهُمُوهُ فَغَضِبَ مِنْ ذَلِكَ وَقَالَ: وَعَدْتُهُمْ وَعْدًا فَكَذَبَ وَعْدِي. فَذَهَبَ مُغَاضِبًا رَبَّهُ وَكَرِهَ الرُّجُوعَ إِلَيْهِمْ، وقد جربوا عليه الكذب، روا سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقَدْ مَضَى هَذَا فِي" الْأَنْبِيَاءِ" وَهُوَ الصَّحِيحُ عَلَى ما يأتي عند قول تَعَالَى:" وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ" [الصافات: ١٤٧]. ولم ينصف يُونُسُ، لِأَنَّهُ اسْمٌ أَعْجَمِيٌّ وَلَوْ كَانَ عَرَبِيًّا لانصرف وإن كانت في أول الْيَاءُ، لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْأَفْعَالِ يُفْعُلُ كَمَا أَنَّكَ إِذَا سَمَّيْتَ بِيُعْفُرٍ صَرَفْتَهُ «١»، وَإِنْ سَمَّيْتَ بِيَعْفُرَ لَمْ تَصْرِفْهُ. الثَّانِيَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:" إِذْ أَبَقَ"

قَالَ الْمُبَرِّدُ: أَصْلُ أَبَقَ تَبَاعَدَ، وَمِنْهُ غُلَامٌ آبِقٌ. وَقَالَ غَيْرُهُ: إِنَّمَا قِيلَ لِيُونُسَ أَبَقَ، لِأَنَّهُ خَرَجَ بِغَيْرِ أَمْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مُسْتَتِرًا مِنَ النَّاسِ." إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ"

أي المملوء." وَالْفُلْكُ" يُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ وَيَكُونُ وَاحِدًا وَجَمْعًا وَقَدْ تَقَدَّمَ «٢». قَالَ التِّرْمِذِيُّ الْحَكِيمُ: سَمَّاهُ آبِقًا لِأَنَّهُ أَبَقَ عَنِ الْعُبُودِيَّةِ، وَإِنَّمَا الْعُبُودِيَّةُ تَرْكُ الْهَوَى وَبَذْلُ النَّفْسِ عِنْدَ أُمُورِ اللَّهِ، فَلَمَّا لَمْ يبذل النفس عند ما اشتدت عليه العزمة من الملك حسب ما تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي [الْأَنْبِيَاءِ]، وَآثَرَ هَوَاهُ لَزِمَهُ اسْمُ الْآبِقِ، وَكَانَتْ عَزْمَةُ الْمَلَكِ فِي أَمْرِ الله


(١). وذلك لأنه زال عنه شبه الفعل بخلاف يعفر فانه على وزن يقتل فمنع الصرف.
(٢). راجع ج ٢ ص ١٩٤ طبعه ثانية.