للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الرَّابِعَةُ- هَذِهِ الْآيَةُ وَمَا كَانَ مِثْلُهَا دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ رُكُوبِ الْبَحْرِ مُطْلَقًا لِتِجَارَةٍ كَانَ أَوْ عِبَادَةٍ، كَالْحَجِّ وَالْجِهَادِ. وَمِنَ السُّنَّةِ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا نَرْكَبُ الْبَحْرَ وَنَحْمِلُ مَعَنَا الْقَلِيلَ مِنَ الْمَاءِ. الْحَدِيثُ. وَحَدِيثُ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ فِي قِصَّةِ أُمِّ حَرَامٍ، أَخْرَجَهُمَا الْأَئِمَّةُ: مَالِكٌ وَغَيْرُهُ. رَوَى حَدِيثَ أَنَسٍ عَنْهُ جَمَاعَةٌ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ أَنَسٍ، وَرَوَاهُ بِشْرُ بْنُ عُمَرَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ إِسْحَاقَ عَنْ أَنَسٍ عَنْ أُمِّ حَرَامٍ، جَعَلَهُ مِنْ مُسْنَدِ أُمِّ حَرَامٍ لَا مِنْ مُسْنَدِ أَنَسٍ. هَكَذَا حَدَّثَ عَنْهُ بِهِ بُنْدَارٌ مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، فَفِيهِ دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى رُكُوبِ الْبَحْرِ فِي الْجِهَادِ لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، وَإِذَا جَازَ رُكُوبُهُ لِلْجِهَادِ فَرُكُوبُهُ لِلْحَجِّ المفترض أولى وأوجب. وروي عن عمر ابن الْخَطَّابِ وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا الْمَنْعُ مِنْ رُكُوبِهِ. وَالْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ يَرُدُّ هَذَا الْقَوْلَ، وَلَوْ كَانَ رُكُوبُهُ يُكْرَهُ أَوْ لَا يَجُوزُ لَنَهَى عَنْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِينَ قَالُوا لَهُ: إِنَّا نَرْكَبُ الْبَحْرَ. وَهَذِهِ الْآيَةُ وَمَا كَانَ مِثْلُهَا نَصٌّ فِي الْغَرَضِ وَإِلَيْهَا الْمَفْزَعُ. وَقَدْ تُؤُوِّلَ مَا رُوِيَ عَنِ الْعُمَرَيْنِ فِي ذَلِكَ بِأَنَّ ذَلِكَ مَحْمُولٌ عَلَى الِاحْتِيَاطِ وَتَرْكِ التَّغْرِيرِ بِالْمُهَجِ فِي طَلَبِ الدُّنْيَا وَالِاسْتِكْثَارِ مِنْهَا، وَأَمَّا فِي أَدَاءِ الْفَرَائِضِ فَلَا. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ رُكُوبِهِ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ضَرَبَ الْبَحْرَ وَسْطَ الْأَرْضِ وَجَعَلَ الْخَلْقَ فِي الْعَدْوَتَيْنِ «١»، وَقَسَّمَ الْمَنَافِعَ بَيْنَ الْجِهَتَيْنِ فَلَا يُوصَلُ إِلَى جَلْبِهَا إِلَّا بِشَقِ الْبَحْرِ لَهَا، فَسَهَّلَ اللَّهُ سَبِيلَهُ بِالْفُلْكِ، قَالَهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ. قَالَ أَبُو عُمَرَ: وَقَدْ كَانَ مَالِكٌ يَكْرَهُ لِلْمَرْأَةِ الرُّكُوبَ لِلْحَجِّ فِي الْبَحْرِ، وَهُوَ لِلْجِهَادِ لِذَلِكَ أَكْرَهُ. وَالْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ يَرُدُّ قَوْلَهُ، إِلَّا أَنَّ بَعْضَ أَصْحَابِنَا مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ قَالَ: إِنَّمَا كَرِهَ ذَلِكَ مَالِكٌ لِأَنَّ السُّفُنَ بِالْحِجَازِ صِغَارٌ، وَأَنَّ النِّسَاءَ لَا يَقْدِرْنَ عَلَى الِاسْتِتَارِ عِنْدَ الْخَلَاءِ فِيهَا لِضِيقِهَا وَتَزَاحُمِ النَّاسِ فِيهَا، وَكَانَ الطَّرِيقُ مِنْ الْمَدِينَةِ إِلَى مَكَّةَ عَلَى الْبَرِّ مُمْكِنًا، فَلِذَلِكَ كَرِهَ مَالِكٌ ذَلِكَ. وَأَمَّا السُّفُنُ الْكِبَارُ نَحْوُ سُفُنِ أَهْلِ الْبَصْرَةِ فَلَيْسَ بِذَلِكَ بَأْسٌ. قَالَ: وَالْأَصْلُ أَنَّ الْحَجَّ عَلَى كُلِّ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا مِنَ الْأَحْرَارِ الْبَالِغِينَ، نِسَاءً كَانُوا أَوْ رِجَالًا، إِذَا كَانَ الْأَغْلَبُ مِنَ الطَّرِيقِ الْأَمْنِ، وَلَمْ يَخُصَّ بَحْرًا مِنْ بَرٍّ.


(١). العدوة: شاطئ الوادي. [ ..... ]