للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وَقَالَ ذُو الرُّمَّةِ:

حَرَاجِيجُ مَا تَنْفَكُّ إِلَّا مناخة ... على الخف أَوْ نَرْمِي بِهَا بَلَدًا قَفْرًا «١»

يُرِيدُ: مَا تَنْفَكُّ مُنَاخَةً، فَزَادَ (إِلَّا). وَقِيلَ: مُنْفَكِّينَ: بَارِحِينَ، أَيْ لَمْ يَكُونُوا لِيَبْرَحُوا وَيُفَارِقُوا الدُّنْيَا، حَتَّى تَأْتِيهُمُ الْبَيِّنَةُ. وَقَالَ ابْنُ كَيْسَانَ: أَيْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُ الْكِتَابِ تَارِكِينَ صِفَةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي كِتَابِهِمْ، حَتَّى بُعِثَ، فَلَمَّا بُعِثَ حَسَدُوهُ وَجَحَدُوهُ. وَهُوَ كَقَوْلِهِ: فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ «٢» [البقرة: ٨٩]. وَلِهَذَا قَالَ: وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ [البينة: ٤] ... الْآيَةَ. وَعَلَى هَذَا فَقَوْلُهُ وَالْمُشْرِكِينَ أَيْ مَا كَانُوا يُسِيئُونَ الْقَوْلَ فِي مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حَتَّى بُعِثَ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا يُسَمُّونَهُ الْأَمِينَ، حَتَّى أَتَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ عَلَى لِسَانِهِ، وَبُعِثَ إِلَيْهِمْ، فَحِينَئِذٍ عَادُوهُ. وَقَالَ بَعْضُ اللُّغَوِيِّينَ: مُنْفَكِّينَ هَالِكِينَ مِنْ قَوْلِهِمْ: انْفَكَّ صَلَا «٣» الْمَرْأَةِ عِنْدَ الْوِلَادَةِ، وَهُوَ أَنْ يَنْفَصِلَ، فَلَا يَلْتَئِمَ فَتَهْلِكَ الْمَعْنَى: لَمْ يَكُونُوا مُعَذَّبِينَ وَلَا هَالِكِينَ إِلَّا بَعْدَ قِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ، بِإِرْسَالِ الرُّسُلِ وَإِنْزَالِ الْكُتُبِ. وَقَالَ قَوْمٌ فِي الْمُشْرِكِينَ: إِنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَمِنْ الْيَهُودِ مَنْ قَالَ: عُزَيْرُ ابْنُ اللَّهِ. وَمِنْ النَّصَارَى مَنْ قَالَ: عِيسَى هُوَ اللَّهُ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هُوَ ابْنُهُ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ. وَقِيلَ: أَهْلُ الْكِتَابِ كَانُوا مُؤْمِنِينَ، ثُمَّ كَفَرُوا بَعْدَ أَنْبِيَائِهِمْ. وَالْمُشْرِكُونَ وُلِدُوا عَلَى الْفِطْرَةِ، فَكَفَرُوا حِينَ بَلَغُوا. فَلِهَذَا قَالَ: وَالْمُشْرِكِينَ. وَقِيلَ: الْمُشْرِكُونَ وَصْفُ أَهْلِ الْكِتَابِ أَيْضًا، لِأَنَّهُمْ لَمْ يَنْتَفِعُوا بِكِتَابِهِمْ، وَتَرَكُوا التَّوْحِيدَ. فَالنَّصَارَى مُثَلِّثَةٌ، وَعَامَّةُ الْيَهُودِ مُشَبِّهَةٌ، وَالْكُلُّ شِرْكٌ. وَهُوَ كَقَوْلِكَ: جَاءَنِي الْعُقَلَاءُ وَالظُّرَفَاءُ، وَأَنْتَ تُرِيدُ أَقْوَامًا بِأَعْيَانِهِمْ، تَصِفُهُمْ بِالْأَمْرَيْنِ. فَالْمَعْنَى: مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ الْمُشْرِكِينَ. وَقِيلَ: إِنَّ الْكُفْرَ هُنَا هُوَ الْكُفْرُ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَيْ لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمُحَمَّدٍ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، الَّذِينَ هُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ، وَلَمْ يكن المشركون، الذين هم عبدة


(١). الحراجيج (جمع حرجوج): وهي الناقة الطويلة الضامرة. والخسف: أن تبيت على غير علف. يقول: ما تنفصل من بلد إلى بلد الا مناخة على الخسف.
(٢). آية ٨٩ سورة البقرة.
(٣). الصلا: وسط الظهر من الإنسان ومن كل ذي أربع. وقيل: هو ما انحدر من الوركين. وقيل: هو ما عن يمين الذنب وشماله.