للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلا تَنْكِحُوا) قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ بِفَتْحِ التَّاءِ. وَقُرِئَتْ فِي الشَّاذِّ بِالضَّمِّ، كَأَنَّ الْمَعْنَى أَنَّ الْمُتَزَوِّجَ لَهَا أَنْكَحَهَا مِنْ نَفْسِهِ. وَنَكَحَ أَصْلُهُ الْجِمَاعُ، وَيُسْتَعْمَلُ فِي التَّزَوُّجِ تَجَوُّزًا وَاتِّسَاعًا، وَسَيَأْتِي بَيَانُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. الثَّانِيَةُ- لَمَّا أَذِنَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي مُخَالَطَةِ الْأَيْتَامِ، وَفِي مُخَالَطَةِ النِّكَاحِ بَيَّنَ أَنَّ مُنَاكَحَةَ الْمُشْرِكِينَ لَا تَصِحُّ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي أَبِي مَرْثَدٍ الْغَنَوِيِّ، وَقِيلَ: فِي مَرْثَدِ بْنِ أَبِي مَرْثَدٍ، وَاسْمُهُ كَنَّازُ بْنُ حُصَيْنٍ الْغَنَوِيُّ، بَعَثَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ سِرًّا لِيُخْرِجَ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِهِ، وَكَانَتْ لَهُ بِمَكَّةَ امْرَأَةٌ يُحِبُّهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ يُقَالُ لَهَا" عَنَاقُ" فَجَاءَتْهُ، فَقَالَ لَهَا: إِنَّ الْإِسْلَامَ حَرَّمَ مَا كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، قَالَتْ: فَتَزَوَّجْنِي، قَالَ: حَتَّى أَسْتَأْذِنَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاسْتَأْذَنَهُ فَنَهَاهُ عَنِ التَّزَوُّجِ بِهَا، لِأَنَّهُ كَانَ مُسْلِمًا وَهِيَ مُشْرِكَةٌ. وَسَيَأْتِي فِي" النُّورِ" بَيَانُهُ «١» إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. الثَّالِثَةُ- وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي تَأْوِيلِ هَذِهِ الْآيَةِ، فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: حَرَّمَ اللَّهُ نِكَاحَ الْمُشْرِكَاتِ فِي سُورَةِ" الْبَقَرَةِ" ثُمَّ نَسَخَ مِنْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ نِسَاءَ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَأَحَلَّهُنَّ فِي سُورَةِ" الْمَائِدَةِ". وَرُوِيَ هَذَا الْقَوْلُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَبِهِ قَالَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ وَسُفْيَانُ بْنُ سَعِيدٍ الثَّوْرِيُّ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَمْرٍو الْأَوْزَاعِيُّ «٢». وَقَالَ قَتَادَةُ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: لَفْظُ الْآيَةِ الْعُمُومُ فِي كُلِّ كَافِرَةٍ، وَالْمُرَادُ بِهَا الْخُصُوصُ فِي الْكِتَابِيَّاتِ، وَبَيَّنَتِ الْخُصُوصَ آيَةُ" الْمَائِدَةِ" وَلَمْ يَتَنَاوَلِ الْعُمُومُ قَطُّ الْكِتَابِيَّاتِ. وَهَذَا أَحَدُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ، وَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ يَتَنَاوَلُهُنَّ الْعُمُومُ، ثُمَّ نَسَخَتْ آيَةُ" الْمَائِدَةِ" بَعْضَ الْعُمُومِ. وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ، ذَكَرَهُ ابْنُ حَبِيبٍ، وَقَالَ: وَنِكَاحُ الْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّةِ وَإِنْ كَانَ قَدْ أَحَلَّهُ اللَّهُ تَعَالَى مُسْتَثْقَلٌ مَذْمُومٌ. وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْحَرْبِيُّ: ذَهَبَ قَوْمٌ فَجَعَلُوا الْآيَةَ الَّتِي فِي" الْبَقَرَةِ" هِيَ النَّاسِخَةَ، وَالَّتِي فِي" الْمَائِدَةِ" هِيَ الْمَنْسُوخَةَ، فَحَرَّمُوا نِكَاحَ كُلِّ مُشْرِكَةٍ كِتَابِيَّةٍ أَوْ غَيْرِ كِتَابِيَّةٍ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَمِنَ الْحُجَّةِ لِقَائِلِ هَذَا مِمَّا صَحَّ سَنَدُهُ مَا حَدَّثَنَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ رَيَّانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رمح، قال: حدثنا


(١). راجع ج ١٢ ص ١٦٨.
(٢). في ج:" وسفيان هو الثوري بن سعيد، وعبد الرحمن هو الأوزاعي بن عمرو".