للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ثانيًا: محنة الهكسوس

لم تعبر تسمية الهكسوس في أصلها عن شعب معين بقدر ما عبرت عن صفة لمجموعة من الحكام أطلق المصريون عليهم اسم "حقاو خاسوت" بمعنى حكام البراري، ثم حور الإغريق والمتأغرقون هذه التسمية إلى "هكسوس" التي ترجمها مانيتون بمعنى "ملوك الرعاة"، ثم ترجمها يوسيفوس اليهودي بمعنى "الأسرى الرعاة" ووصل بينهم وبين العبرانيين كفئة تابعة لهم، وافترض أن النبي يوسف دخل مصر في عصرهم، وأنهم -أي العبرانيين- خرجوا معهم بعد جلائهم عن مصر. وهو وإن أنزلهم إلى مرتبة الأسرى والرعاة، إلا أن تخريجاته التي قصد أن يدلل بها على قدم نشأة اليهود يحوطها شك كبير حيث لم يعرف لهم تاريخ مؤكد إلى بعد هذا بقرون.

ومرة أخرى لم يعبر المصريون باسم "حقاو خاسوت" "ومترادفات أخرى مثل عامو"١ عن قومية معينة بقدر ما عبروا به عن صفات البربرية والأجنبية والقبلية بوجه عام. والواقع أن الأصل الجنسي للهكسوس لا زال مشكلة تنتظر الحل، والرأي المقبول نسبيًّا فيها هو أن هجرة الهكسوس إلى مصر كانت ذات صلة بتحركات شعوبية كبيرة هاجرت تباعًا من سهوب أواسط آسيا، تحت ضغط ظروف طبيعية أو بشرية لا نعرفها، منذ أوائل الألف الثاني ق. م، ثم تدفقت على فترات متقطعة طويلة إلى شرق أوروبا من ناحية، وإلى الأناضول وأراضي الهلال الخصيب من ناحية أخرى. واختلفت وسائل تحركاتها ونتائج هجراتها من عهد إلى عهد ومن أرض إلى أرض، كما اختلفت الأسماء التي عرفها التاريخ بها باختلاف الظروف التي ظهرت على مسرح الحوادث فيها، واختلاف الأسماء التي عبر بها أهلها عن أنفسهم، أو عبر عنهم بها أهل البلاد التي دخلوها. وهكذا عرفهم بعض المؤرخين باسم عام وهو اسم الآريين أو الهندوآريين، وعرفتهم مصادر بلاد النهرين باسم الكاسيين أو الكاشيين، وعرفتهم مصادر آسيا الصغرى باسم الخاتيين "ثم الحيثيين"، وعرفتهم شواطئ الفرات العليا والمناطق السورية الشمالية الشرقية باسم الحوريين أو الخوريين، وسلكتهم المصادر الإغريقية في تسمية الآخيين، وعرفتهم المصادر المصرية باسم حقاوخاسوت الذي تحرف إلى هكسوس، وجمع بين عادات أغلب المهاجرين إلى الشرق من هؤلاء وهؤلاء أنهم جروا على أن يؤلفوا في بداية أمورهم إمارات منفصلة، تلحق بعواصمها معسكرات كبيرة تحيطها سياجات وأسوار لبنية سميكة مرتفعة ويحف بها خندق عميق. وكانوا فيما يقال يضحون بجحش في حفل بناء سورهم ويدفنون تحت السور طفلًا، ويدفنون خيولهم في مدافن خاصة أو يدفنونها مع أصحابها تنويهًا باعتزازهم بها٢.

وبلغت شعبة من هذه الهجرات أعالى الشام خلال القرن ١٩ أو أوائل القرن ١٨ق. م، على وجه التقريب. ثم تسربت منها إلى جنوبها، وتزلزلت تحت ضغطها إمارات سورية كثيرة، وبدأ الأموريون في الشام يموج بعضهم في بعض، وأخذت بعض جماعاتهم تندفع ناحية الجنوب والشرق تحت ضغط


١ تراجع مناقشتها في كتابنا الثاني عن حضارة مصر القديمة وآثارها.
٢ W.F. Petrie-Ancient Caza, I, ٤, Pls. Viii-Ix; Vol. Ii, ٤, ١٥; Vol. Iv, ١٦.

<<  <   >  >>