للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:
مسار الصفحة الحالية:

مصدر بمعنى الخلوة أي الاختلاء وهو بالرفع نائب عن الفاعل، وعبر بحبب المبني لما لم يسم فاعله لعدم تحقق الباعث على ذلك وإن كان كلٌّ من عند الله، أو تنبيهًا على أنه لم يكن من باعث البشر، وإنما حبب إليه الخلوة لأن معها فراغ القلب والانقطاع عن الخلق ليجد الوحي منه متمكنًا كما قيل: فصادق قلبًا خاليًا فتمكّنا.

وفيه تنبيه على فضل العزلة لأنها تريح القلب من أشغال الدنيا وتفرغه لله تعالى فيتفجر منه ينابيع الحكمة، والخلوة: أن يخلو عن غيره بل وعن نفسه بربه، وعند ذلك يصير خليقًا بأن يكون قالبه ممرًّا لواردات علوم الغيب، وقلبه مقرًّا لها. وخلوته عليه الصلاة والسلام إنما كانت لأجل التقرب لا على أن النبوّة مكتسبة. (وكان) عليه الصلاة والسلام (يخلو بغار حراء) بكسر الحاء المهملة وتخفيف الراء وبالمد، وحكى الأصيلي فتحها والقصر وعزاها في القاموس للقاضي عياض، قال: وهي لغية وهو مصروف إن أُريد المكان وممنوع إن أريد البقعة، فهي أربعة: التذكير والتأنيث والمد والقصر، وكذا حكم قباء وقد نظم بعضهم أحكامها في بيت فقال:

حرا وقبا ذكّر وأنّثهما معًا ... ومدّ أو اقصر واصرفن وامنع الصرفا

وحراء جبل بينه وبين مكة نحو ثلاثة أميال على يسار الذاهب إلى منى والغار نقب فيه. (فيتحنث فيه) بالحاء المهملة وآخره مثلثة، والضمير المنفصل عائد إلى مصدر يتحنث، وهو من الأفعال التي معناها السلب أي اجتناب فاعلها لمصدرها، مثل تأثم وتحوّب إذا اجتنب الإثم والحوب. أو هي بمعنى يتحنف بالفاء أي يتبع الحنيفية دين إبراهيم والفاء تبدل ثاء، (وهو التعبد الليالي ذوات العدد) مع أيامهن، واقتصر عليهن للتغليب لأنهن أنسب للخلوة. ووصف الليالي بذوات العدد لإرادة التقليل كما في قوله تعالى: {دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ} [يوسف: ٢٠] أو للكثرة لاحتياجها إلى العدد وهو المناسب للمقام، وهذا التفسير للزهري أدرجه في الخبر كما جزم به الطيبي. ورواية المصنف من طريق يونس عنه في التفسير تدل على الإدراج، والليالي نصب على الظرفية متعلق بقوله يتحنث، لا بالتعبد لأن التعبد لا تشترط فيه الليالي بل مطلب التعبد. وذوات نصب بالكسرة صفة الليالي، وأبهم العدد لاختلافه بالنسبة إلى المدد التي يتخللها مجيئه إلى أهله، وأقل الخلوة ثلاثة أيام. وتأمل ما للثلاثة في كل مثلث من التكفير والتطهير والتنوير، ثم سبعة أيام ثم شهر لما عند المؤلف ومسلم جاورت بحراء شهرًا، وعند ابن إسحق أنه شهر رمضان.

قال في قوت الإحياء: ولم يصح عنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أكثر منه، نعم روى الأربعين سوار بن مصعب وهو متروك الحديث. قاله الحاكم وغيره، وأما قوله تعالى: {وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ} [الأعراف: ١٤٢] فحجة للشهر، والزيادة إتمامًا للثلاثين حيث استاك أو أكل فيها كسجود السهو فقوي تقييدها بالشهر وأنها سُنّة. نعم الأربعون ثمرة نتاج النطفة علقة فمضغة فصورة والدر في صدفه.

فإن قلت: أمر الغار قبل الرسالة فلا حكم؟ أجيب بأنه أوّل ما بدىء به عليه الصلاة والسلام من الوحي الرؤيا الصالحة، ثم حبب إليه الخلاء فكان يخلو بغار حراء كما مرّ. فدلّ على أن الخلوة حكم مرتب على الوحي لأن كلمة ثم للترتيب، وأيضًا لو لم تكن من الدين لنهى عنها، بل هي ذريعة لمجيء الحق وظهوره مبارك عليه وعلى أمته تأسّيًا وسلامة من المناكير وضررها، ولها شروط مذكورة في محلها من كتب القوم.

فإن قلت: لمِ خصّ حراء بالتعبد فيه دون غيره؟ قال ابن أبي جمرة: لمزيد فضله على غيره، لأنه منزوٍ مجموع لتحنثه وينظر منه الكعبة المعظمة، والنظر إليها عبادة، فكان له عليه الصلاة والسلام فيه ثلاث عبادات: الخلوة والتحنث والنظر إلى الكعبة.

وعند ابن إسحق أنه كان يعتكف شهر رمضان، ولم يأت التصريح بصفة تعبده عليه الصلاة والسلام، فيحتمل أن عائشة أطلقت على الخلوة بمجردها تعبدًا فإن الانعزال عن الناس ولا سيما من كان على باطل من جملة العبادة، وقيل: كان يتعبد بالتفكر، (قبل أن ينزع) بفتح أوّله وكسر الزاي أي

يحن ويشتاق ويرجع

<<  <  ج: ص:  >  >>