للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[مناقشة أهل الضلال في تعريفهم للإيمان وأدلة ذلك]

نذكر الآن فصلاً عقده الإمام أبو بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة رحمه الله تعالى -الملقب بإمام الأئمة رحمه الله- في كتاب التوحيد، وإثبات صفة الرب عز وجل بعد أن سرد أحاديث الشفاعة بأسانيدها، قال: قد روينا أخباراً عن النبي صلى الله عليه وسلم يحسب كثير من أهل الجهل والعناد أنها خلاف هذه الأخبار التي ذكرناها مع كثرتها، وصحة سندها، وعدالة ناقليها في الشفاعة، وفي إخراج بعض أهل التوحيد من النار بعدما دخلوها بذنوبهم وخطاياهم، وليست بخلاف تلك الأخبار عندنا بحمد الله ونعمته.

والإمام ابن خزيمة هنا يشير إلى بعض الناس ممن تفسد أفهامهم ويأخذون بأطراف الأحاديث، يعني: فريق يأخذ بطرف من الأحاديث، والآخر يأخذ بالطرف الآخر، ولا يجمعون بين النصوص ويؤلفون بينها، فتنتشر البدع والضلالات، وهذا هو منشأ انحراف كثير من الخلق، أي: الإفراط أو التفريط الغلو أو الجفاء، ودائماً تكون الجماعة الوسط هم جماعة أهل السنة والجماعة الذين سلكوا مسلك السلف الصالح، لذلك نحن حينما نقول: الكتاب والسنة لا نتركها بدون قيد، فلا تقل: الطريقة الصحيحة هي الكتاب والسنة وتسكت، بل لا بد أن تضع قيداً حتى تسد الطريق على أهل البدع، فتقول: نأخذ بالكتاب والسنة بفهم السلف الصالح، بفهم أهل السنة والجماعة؛ لأنه ممكن أن يكون في الكتاب والسنة بعض العمومات، فيستدل بها بعض أهل الضلال لتأييد بدعتهم، كما يقول بعض الشعراء: وكم من فقيه خابط في ضلالة وحجته فيها الكتاب المنزّلُ بل يصل الأمر أحياناً ببعض الملاحدة والزنادقة أن يستدلوا بآيات من الكتاب على ما هم عليه من الضلال والفاسد، كما قال ذلك الزنديق: ما قال ربك ويل للأولى سكروا لكنما قال ويل للمصلينا! يعني: أنه يدعو لشرب الخمر وترك الصلاة!! فالضال الذي يريد أن يستدل بعمومات النصوص سيجد متسعاً في ذلك، ولكنك إذا قيدته بقولك: نأخذ بالقرآن والسنة بفهم السلف الصالح، فإنك بهذا تسد عليه طريق البدع، فإذا أبى جادلته في مسألة وجوب التحاكم إلى فهم السلف الصالح، والمؤهلات التي أهلهم الله بها.

المقصود: أن إمام الأئمة أبو بكر بن خزيمة يناقش هؤلاء المرجئة أو الوعيدية الخوارج، وكيف أن كل فريق يستدل بالنصوص على بدعته، والآخر أيضاً يستدل بالنصوص، فهؤلاء يسيرون إلى أقصى اليمين، والآخرون يسيرون إلى أقصى اليسار، وأهل الحق أمة وسط كما وصاهم الله تبارك وتعالى.

يقول: وأهل الجهل الذين ذكرتهم في هذا الفصل صنفان: صنف منهم الخوارج والمعتزلة، أنكرت إخراج أحد من النار ممن يدخل النار.

أي أنهم قالوا: إن كل من يدخل النار لا يخرج منها أبداً، إذ لا يمكن أنه يدخل النار ثم يخرج منها.

وأنكرت هذه الأخبار التي ذكرناها في الشفاعة.

الصنف الثاني: الغالية من المرجئة، التي تزعم أن النار حرمت على من قال: لا إله إلا الله.

فهذا الطرف الذي يقول: من يدخل النار لا يخرج منها، يستدلون بالأحاديث التي فيها وصف بعض المعاصي بالكفر، وما خالفهم ينكرونه، والطرف الآخر من المرجئة الغلاة يستدلون بالنصوص التي حرمت النار على من قال لا إله إلا الله، أو (من قال: لا إله إلا الله حرم الله جسده على النار) إلى آخر هذه الأحاديث وأشباهها، فهؤلاء جفوا، وأولئك غلوا.

فيقول: أول ما نبدأ بذكر الأخبار بأسانيدها وألفاظ متونها، ثم نبين معانيها بعون الله ومشيئته، ونشرح ونوضح أنها ليست بمخالفة للأخبار التي ذكرناها في الشفاعة، وفي إخراج من قضى الله إخراجهم من أهل التوحيد من النار.

ثم ساق منها حديث ابن مسعود رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر، ولا يدخل النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان).

وحديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إني لأعلم كلمة لا يقولها عبد حقاً من قلبه فيموت على ذلك إلا حرم على النار: لا إله إلا الله).

وحديث عتبان بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لن يوافي عبد يوم القيامة وهو يقول: لا إله إلا الله، يبتغي بذلك وجه الله إلا حرم على النار)، وفي رواية: (فإن الله قد حرم على النار أن تأكل من قال: لا إله إلا الله).

وحديث عثمان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من مات وهو يشهد أن لا إله إلا الله دخل الجنة).

وحديث معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من مات وهو يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله صادقاً من قلبه دخل الجنة)، يعني: وهذا يقوي الحديث الذي قبله: ومن مات وهو يشهد أن لا إله إلا الله دخل الجنة؟ وهل كل الإيمان أن تقول: لا إله إلا الله؟ كلا.

لكن لا شك أنه ينضم إليه من مات وهو يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.

فلو أن أحداً مات وهو يشهد أن لا إله إلا الله، لكنه أبى ورفض أن يقول: محمد رسول الله، فهل ينطبق عليه هذا الحديث؟

الجواب

لا، إذاً: لابد أن تجمع النصوص بعضها إلى بعض، وتفهم النصوص في ضوء بعضها البعض، ولا تأخذ بالعمومات، وإنما عليك أن تربط النصوص بعضها ببعض، وفهمها في ضوء جمع أطرافها، مما شابهها وقاربها.

فإن قيل: في هذا الحديث: (من لقي الله يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله دخل الجنة)، فإن شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وكذب بوجود الملائكة، فهل يكون مؤمناً؟ قلنا: لا، ولا ينفعه هذا الحديث.

إذاً: الإيمان مجموعة من الحقائق المتلازمة التي لا ينفصل بعضها عن بعض، والقدح في شيء منها يهدم كل الإيمان وينقصه، كما سنبين ذلك إن شاء الله تعالى فيما بعد.

فمثلاً: لو شهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وصلى وصام وزكى وحج وفعل كل أركان الإيمان، لكن كذب مثلاً بأن عيسى رسول الله وأنكر نبوة المسيح عليه السلام، أو قال: لم ينزل الله كتاباً اسمه التوراة، أو كذب بأي نبي من الأنبياء أو ملك من الملائكة، فهل ينفعه الإيمان ببقية أركان الإيمان؟ الجواب: لا، بل يصبح مرتداً خارجاً من الملة، يستوي مع من لم يقل هذه الكلمة، إذاً لابد من جمع أطراف النصوص وفهمها في ضوء بعضها البعض.

أيضاً: حديث جابر رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه فقال: اذهب فنادِ في الناس: أن من شهد أن لا إله إلا الله موقناً -أو مخلصاً- دخل الجنة).

وحديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (قال رجل: يا رسول الله! ما تركت من حاجة ولا داجة إلا أتيت عليها)، يعني: أنه ما ترك أي شيء من المعاصي أو الآثام إلا وقد أتى عليها وارتكبها، قال: (أو تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله؟ قال: نعم، قال: فإن هذا يأتي على ذلك كله).

وعن عمر رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره أن يؤذن الناس: أن من يشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له مخلصاً فله الجنة، قال عمر: يا رسول الله! إذاً يتكلوا، قال: فدعهم)، يعني: إذا خشيت من الناس أن تقصر أفاهمهم عن فهم حقيقة هذه النصوص ويتكلوا على ذلك فيدعون العمل، فلا تبلغهم هذا العلم الذي يسيئون فهمه.

وعن عبد الله بن سلام رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وجبت له الجنة).

وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قال لي جبريل: من مات من أمتك لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة ولم يدخل النار، قلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال: وإن زنى وإن سرق).

وعن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه قرأ: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن:٤٦] قلت: وإن زنى وإن سرق يا رسول الله؟! قال: فقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن:٤٦]، قلت: وإن زنى وإن سرق يا رسول الله؟ قال: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن:٤٦]، قلت: وإن زنى وإن سرق يا رسول الله؟! قال: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن:٤٦]، قلت: يا رسول الله! وإن زنا وإن سرق؟ قال: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن:٤٦] وإن زنى وسرق ورغم أنف أبي الدرداء، فلا أزال أقرأها كذلك حتى ألقاه)، رواه ابن خزيمة في التوحيد، وابن أبي شيبة في المصنف، والإمام أحمد في المسند، والنسائي في سننه الكبرى، وفي (عمل اليوم والليلة)، والبزار وأبو يعلي وابن جرير.

وقال محقق الكتاب: وهو حديث صحيح يشهد له ما تقدم، وهو غير حديث أبي ذر المعروف في الصحيحين.

وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمة، وأنا أقول أخرى، قال: من مات وهو يجعل لله نداً دخل النار، قال: وأقول: ومن مات وهو لا يجعل لله نداً دخل الجنة)، إشارة إلى التوحيد.

قال أبو بكر بن خزيمة رحمه الله: قد كنت أمليت أكثر هذا الباب من كتاب الإيمان، وبينت في ذلك الموضع معنى هذه الأخبار، وأن معناها ليس كما يتوهمه المرجئة، فالمرجئة يستدلون بمثل هذه الأحاديث على أن الإيمان يثبت بمجرد الكلمة، وذلك بأن يشهد أن لا إله إلا الله.

وكما ذكرنا من قبل ليس هذا هو فقط الإيمان.

يقول: وبيقين يعلم كل عالم

<<  <  ج: ص:  >  >>