للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[زمن التوبة]

أما زمان التوبة ففي حق عمر كل إنسان قبل الغرغرة، وهي حشرجة الروح وترددها في الصدر عند الاحتضار، عندما يرى الإنسان الملائكة، قال الله تبارك وتعالى: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ} [النساء:١٧]، وليس معنى ذلك: أن التوبة فقط للشخص الذي كان يجهل أنها معصية، لا! الجهالة هنا جهالة عملية، إذ كل من عصى الله جاهل، فالشخص الذي يعرف ويعلم أن الخمر حرام ويشرب الخمر في حد ذاته يسمى جهلاً عملياً، فهناك جهالة السلوك وجهالة العلم، ومن ذلك أن الرسول عليه الصلاة والسلام: كان إذا خرج من بيته يقول: (اللهم إني أعوذ بك أن أضل أو أضل، أو أزل أو أزل، أو أظلم أو أظلم، أو أجهل أو يجهل علي) أي: جهالة السلوك وسوء الخلق.

ويقول بعض الشعراء: ألا لا يجهلن أحد علينا فنجهل فوق جهل الجاهلينا فهي جهالة عملية، وهي المقصودة هنا في قوله تعالى.

{إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا * وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ} [النساء:١٧ - ١٨]، هذا لا تقبل توبته {وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [النساء:١٨]، يفهم من هذه الآية أن الذي مات ولم يتب ليس بكافر؛ لأنه فصل بين الذين يموتون وهم كفار وبين الذين يموتون دون أن يتوبوا من المسلمين؛ فدل أن هذا فريق غير هذا الفريق، صحيح أن هذا يستحق وعيد وهذا يستحق وعيد، لكن لم يسمهم كفاراً حتى وإن ماتوا مصرين.

وعن أبي العالية: أنه كان يحدث: أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم كانوا يقولون: (كل ذنب أصابه عبد فهو جهالة).

وعن قتادة قال: اجتمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأوا أن كل شيء عصي الله به فهو جهالة عمداً كان أو غيره.

وقال مجاهد: كل عامل بمعصية الله فهو جاهل حين عملها.

وقال ابن عباس رضي الله عنهما: من جهالته عمل السوء.

وعنه رضي الله عنه قال: {ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ} [النساء:١٧]، قال: بينه وبين أن ينظر إلى ملك الموت.

وقال الضحاك: ما كان دون الموت فهو قريب.

وقال قتادة والسدي: يعني ما دام في صحته.

وقال الحسن البصري: {ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ} [النساء:١٧]، يعني: ما لم يغرغر.

وقال عكرمة: الدنيا كلها قريب.

يعني: يتوب وهو ما زال حياً في الدنيا.

وفي الحديث: (إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر)، فهذا توقيت زمان التوبة في حق كل فرد من العباد، وأما في حق عمر الدنيا فقد تقدم في الآيات والأحاديث أنها تنقطع بطلوع الشمس من مغربها؛ لأنها أول آيات القيامة العظام، وحين الإياس من الدنيا: {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا} [الأنعام:١٥٨]، هذه الآيات المقصود بها طلوع الشمس من المغرب.

كما أن رؤية ملك الموت آية الانتقال من الدنيا وحين الإياس من الحياة، كذلك الأمم المخسوف بها انقطعت التوبة عنهم برؤيتهم العذاب، يقول تبارك وتعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون * فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ * فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ} [غافر:٨٢ - ٨٥].

فلا تنفع التوبة إذا نزل العذاب أو إذا حضر ملك الموت أو إذا غرغر العبد؛ إنما التوبة في وقت الإمكان وفي وقت الإصلاح.

لكن نفرض أن إنساناً تاب قبل أن تأتيه الغرغرة وقبل أن يرى ملك الموت بثانية واحدة، فهل تقبل توبته أم لا تقبل؟ تقبل؛ لأنه لا يعرف مدى أجله، هو يتوب وينوي الاستقامة ما دام حياً، فإذا أتاه ملك الموت بعد توبته النصوح بدقيقة واحدة فيعفى له عن كل ما سلف من الذنوب والخطايا في حقه.

<<  <  ج: ص:  >  >>