للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[الفرق في منهج المؤلف بين مسلكي الإجمال والتفصيل في الإيمان]

والآن نذكر الفرق بين الاتجاهين اللذين تركهما الكاتب في الإجمال والتفصيل في تحرير قضية الأصل في الدين: المسلك الأول: الإجمال، وهو التصديق بخبر الرسول عليه الصلاة والسلام جملة وعلى الغيب، والالتزام جملة وعلى الغيب، فالمسلك الأول يعني: ثبوت عقد الإسلام لكل من أعلن الالتزام المجمل بالإسلام، ودليل ذلك النطق بالشهادتين؛ فإن كان صادقاً في ذلك فقد ثبت له عقد الإسلام ظاهراً وعلى الحقيقة، فلو مات في هذه اللحظة لمات على الإسلام، ولو لم يعلم من تفاصيل ما يجب اعتقاده واتباعه من الدين شيئاً؛ لحديث ذلك الرجل الذي جاء إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: (يا رسول الله! أسلم أو أقاتل؟ قال: أسلم ثم قاتل) فلم يقل له: تعال أولاً أعرض عليك هذه المعاني المفصلة للحكم والنسك والولاية، ونستوفي منك كل حدود هذا الحد، ثم بعد ذلك تصبح مسلماً ثم تقاتل، بل شهد الشهادتين وبذلك ثبت له عقد الإسلام، وقاتل فقتل شهيداً، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (عمل قليلاً، وأجر كثيراً)، فلو مات بعد هذه اللحظة لمات على الإسلام، حتى لو لم يعلم تفاصيل هذه الأمور.

المسلك الثاني: ذكر الكاتب تفاصيل النسك والحكم والولاية، وأنه لا يثبت عقد الإسلام على الحقيقة إلا لمن استوفى أركان توحيد العبادة، واعتقد الحق في كل مسألة من مسائله على التفصيل، وعلى هذا فإن من أعلن لنا التزامه بالإسلام، وقبوله المجمل بدين الإسلام الذي تترجمه كلمة الشهادتين أثبتنا له صفة الإسلام بناءً على ذلك، هذا هو المسلك الأول للكاتب، ووافقناه في ذلك مع توضيح الفروق بين الاتجاهين، لكن إذا اكتشفنا -بعدما أثبتنا له صفة الإسلام بالطريقة المجملة- جهله ببعض نتائج التوحيد كتوحيد العبادة مثلاً؛ فإنه يكون بذلك لا يزال باقياً على كفره الأول لم يدخل في الإسلام بعد لعدم استيفاء حده.

فالفرق بين المسلكين: أن المسلك الأول يثبت عقد الإسلام ظاهراً وباطناً بمجرد الالتزام المجمل به ظاهراً وعلى الحقيقة، وإن جهل كل عقائده وشرائعه، ما دام أنه قد انعقد قلبه على مطلق التصديق والاتباع والالتزام.

أما المسلك الثاني: فلا يكفي هذا الالتزام المجمل في الحقيقة، بل يهدر إهداراً كلياً أمام جهله بمسألة من المسائل المتعلقة بتوحيد العباد، بحيث لو أن رجلاً مضى على إعلانه للإسلام، وإقامته لشعائره، وصدقه في اتباعه ظاهراً وباطناً عشرات السنين، ثم اكتشف جهله بمسألة من مسائل توحيد العبادة، كمسألة الاستغاثة بأصحاب القبور، وأنها من الشرك الذي حرمه الله، لدل ذلك على استمرار كفره الأول، وحبوط عمله طيلة هذه السنين، وأنه لم يدخل في الإسلام بعد، فهذا هو الفرق بين المسلكين بالنسبة لقضية حد الإسلام.

ونحن تكلمنا في نقد المسلك الإجمالي في أن حد الإسلام لا يتبعض، وأنه لا يزيد ولا ينقص، ولا يتفاوت الالتزام والتصديق، وقلنا: إن كلمة التوحيد أولى بِجُل هذه الخصائص التي أضفاها على تعريفة المجمل لحد الإسلام، فأولى ثم أولى أن تكون هذه الخصائص لكلمة التوحيد التي يثبت بها عقد الإسلام فيما يظهر لنا.

أما المسلك التفصيلي فيلاحظ عليه: أنه قام على أساس: أن الإيمان المجمل الذي هو حد الإسلام شيء واحد متماثل في كل المؤمنين لا يتبعض ولا يتفاوت، ولا يزيد ولا ينقص، فما من شك أن هذه الشبهة هي نفس الشبهة التي دخلت على كلٍ من الخوارج والمرجئة والمعتزلة، وكانت أساس ضلال هذه الفرق جميعاً في باب الإيمان رغم ما قد يبدو بينهما في الظاهر من تناقض واختلاف، بل الخوارج من معتقدهم: تكفير صاحب الكبيرة، وأنه ليس بمؤمن؛ ذهاباًَ إلى الأخذ بنصوص الوعيد، وتأسيساً على أن ماهية الإيمان لا تقبل التعدد ولا التبعض، ووافقهم على ذلك المعتزلة، إلا أنهم أخرجوه من الإيمان، ولم يدخلوه في الكفر اعتباراً بالنصوص التي تفرق بين المرتد وبين أصحاب المعاصي؛ فابتدعوا ما أسموه بالمنزلة بين المنزلتين التي يستعملونها الآن بعبارة عصرية، وهي: التوقف، والتوقف يعني: انعدام الوزن؛ فلا هو مسلم ولا هو كافر، فلا يحكم عليه بالإسلام ولا بالكفر، وهذا اتباع لبدعة المعتزلة المسماه: المنزلة بين المنزلتين، فهؤلاء إن خالفوهم مقالاًَ إلا أنهم وافقوهم مآلاً؛ لأنهم حكموا عليه بالخلود في نار جهنم في الآخرة، وعلى نفس هذا الأساس -أساس تصور أن حد الإسلام شيء واحد متماثل في كافة المؤمنين لا يتبعض ولا يتفاوت ولا يزيد ولا ينقص- أقام المرجئة معتقدهم في إخراج العمل عن الإيمان بناءً على الأدلة الكثيرة التي تشهد بفساد مذهب الخوارج والمعتزلة، واعتباراً بظواهر نصوص الوعد، وتأسيسها على أن ماهية الإيمان لا تقبل التعدد ولا التبعض.

وعلى نفس هذا الأساس حرر الكاتب مذهبه في أصل الدين؛ فافترض أن له ماهية ثابتة متماثلة لدى الكافة، وأنها لا تقبل التعدد ولا التبعض، يقول: والأصل أنه لا تفاوت ولا تبعيض بين أركانه، ويقول في موضع آخر: عندما يكون الإسلام قسيماً للإيمان في الدلالة بمجموعهما على أصل الدين يكونان متلازمين لا يقبل أحدهما بدون الآخر، وتخلف العمل هنا كفر، فهذا التفاوت له وجوه متعددة، منها العلم والجهل، فكلما علم العبد بما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم فصدقه، وما أمر به فالتزمه كان ذلك زيادة في إيمانه على من لم يحصل له ذلك، وإن كان معه التزام وإقرار عام، فمن عرف أسماء الله ومعانيها كان إيمانه أكمل ممن لم يعرف تلك الأسماء، بل آمن بها إيماناً مجملاً أو عرف بعضها، وكلما ازداد الإنسان معرفة بأسماء الله وصفاته وآياته كان إيمانه بها أكمل.

وأيضاً: شتان بين إيمان أهل السنة الذين تلقوا نصوص الوحي بالقبول وفهموها على وجهها، وبين تلقي أهل البدع لهذه النصوص، وتحريف دلالاتها بتأويلات فاسدة وشبه باردة كما فعلت المعتزلة والجهمية من تعطيل الصفات، وكما فعل الخوارج والمعتزلة والزيدية من إنكارهم الكثير من المغيبات.

أيضاً: هناك خلط في هذا المسلك التفصيلي بين ما يجب من أصل الدين لثبوت عقد الإسلام، وما يجب لاستمرار عقد الإسلام وعدم انقطاعه، فثبوت عقد الإسلام بادئ ذي بدء يتوقف على الإقرار المجمل بالإسلام تصديقاً وانقياداً، ولا يتوقف على الإحاطة بالتفاصيل لا في الفروع ولا في الأصول، فمن جاء إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أو جاء إلى جماعة المسلمين من بعده يعلن إيمانه بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم وبما جاء به من عند الله؛ فقد ثبت له عقد الإسلام كائناً ما كان جهله، فهذا القبول المجمل للإسلام كافٍ في ثبوت عقده، ومن قال بإرجاء الحكم بإسلامه حتى يتوقف على شيء من التفاصيل فقد كابر الحقيقة والتاريخ، ولو مات هذا الرجل بعد الإقرار العام فهو ناجٍ عند الله؛ لأن عقد الإسلام قد ثبت له ظاهراً وعلى الحقيقة.

فإن قال قائل: لكن الذين بعث فيهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كانوا عرباً يعرفون مدلول الكلمات، ويفهمون من كلمة التوحيد ما يجب أن يفهم منها لاستيفاء حد الإسلام، ولهذا كانت هذه الكلمة في زمانهم كافية في ثبوت عقد الإسلام.

ف

الجواب

أن هذه الدعوة عارية عن الحجة، وعاطلة عن البرهان، فرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يبعث إلى العرب وحدهم، وإنما بعث إلى العرب والعجم، وكان يفد إليه صلى الله عليه وآله وسلم أخلاط من الناس متفاوتون في المدارك والمعارف، ولم يسمع قط أنه قبل لا إله إلا الله من قوم وردها من آخرين حتى يفهموا منها ما لابد من تحقيقه لاستيفاء أصل الدين، فكان يأتيه البدوي والعربي الفصيح والشريف والضعيف والعبد والرومي والفارسي والحبشي، ومع تفاوت الناس وكثرة عدد من دخل في الإسلام لا نعلم على الإطلاق أن النبي صلى الله عليه وسلم قبل إسلام العربي؛ لأنه يفهم لغة العرب ويعرف كل معاني التوحيد بسليقته وفطرته، وتوقف في إسلام الأعجمي الذي أتى وشهد الشهادتين حتى يستوفي حد الإسلام، أو توقف في قبول كلمة التوحيد من هذا الرجل الذي قد يكون مظنة الجهل ببعض هذه المفاهيم، ولا يستطيع أحد أن يغامر بادعاء أن العرب قاطبة كانوا يفهمون من كلمة التوحيد كل ما تتضمنه من حقائق وأصول، فهذا في العرب فكيف بالعجم؟ فعن عدي بن حاتم رضي الله تبارك وتعالى عنه، في سبب نزول الآية -إذا صح- التي في سورة التوبة: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة:٣١]: أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليه عدي وقد علق صليباً من فضة في عنقه، فقال: (يا عدي! اطرح عنك هذا الوثن، وتلا هذه الآية: ((اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ)) [التوبة:٣١]، فقال: يا رسول الله! ما كنا نعبدهم، فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ألم يحلوا لكم الحرام ويحرموا عليكم الحلال فتطيعوهم؟ قال: نعم، قال: فتلك عبادتهم)، والقصة مشهورة أخرجها ابن جرير الطبري، هذه القصة إذا صحت فهي دليل على أنه كان يجهل المعنى الحقيقي الشامل للعبادة، فإنه كان يظن أن العبادة هي الركوع والسجود، فبين له النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن إطاعة الغير في تحليل ما حرم الله، أو تحريم ما أحل الله عبادة له؛ لأن هذا من خصائص الألوهية التي لا تنبغي أن تكون إلا لله عز وجل، ومع ذلك كان يجهل هذا المعنى من المعاني الأساسية للتوحيد.

كذلك كان من هؤلاء العرب من قالوا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم في غزوة حنين حينما مروا بشجرة يقال لها: ذات أنواط، يعلق عليها المشركون أسلحتهم تبركاً بها، فقالوا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم -وكانوا حديثي عهد بالإسلام-: (اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط، فقال عليه الصلاة والسلام: الله أكبر! قلتم والذي نفسي بيده! كما قال أصحاب موسى لموسى: اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة)، فالشاهد: أن هذا فيه جهل

<<  <  ج: ص:  >  >>