للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[حجج القائلين بالعذر بالجهل وحجج مخالفيهم]

أيضاً: لعدم العذر بالجهل عند القائلين به في هذا المقام أحد مأخذين: المأخذ الأول: أن أصل الدين لا عذر فيه بالجهل؛ لأن للإسلام حداً لا تثبت صفة الإسلام إلا باستيفائه، فمن لم يأت به فهو كافر سواء كان كفره عناداً أم جهلاً.

المأخذ الثاني: أن التقصير في التعلم يهدر الاحتجاج بالجهل، فحيث وجدت مظنة العلم وتهيأت أسبابه فلا عذر بالجهل، وحيث التبست الأمور أو فترت الشرائع تعين العذر لا محالة.

فالمأخذ الأول: أن أصل الدين لا عذر فيه بالجهل؛ لأن حد الإسلام لا تثبت صفة الإسلام إلا باستيفائه.

هذا هو الذي درج عليه الكاتب، ولهذا لا يفرق في أحكام الدنيا بين وجود مظنة العلم أو عدم وجودها، فحد الإسلام عنده معيار موضوعي بحت؛ إن وجد وجد الإسلام، وإن تخلف منه شيء تخلفت صفة الإسلام بصرف النظر عن حال صاحبه من علم أو جهل، وحال مجتمعه من وجود مظنة العلم أو عدم وجودها.

فهذا المأخذ كما بينا من قبل مرفوض بلا نزاع عند التصديق التفصيلي لقضايا أصل الدين؛ لكنه مقبول فيما يتعلق بالإقرار المجمل بالإسلام، والالتزام المجمل بعبادة الله وحده لا شريك له.

وبهذا الكلام تنكشف مغالطة من يزعم: بأن إقرار العذر بالجهل في قضايا أصل الدين سوف ينتهي بنا إلى عذر اليهود والنصارى والمجوس، فيقولون: أنتم تتمادون في العذر بالجهل، وسوف يصل بكم الأمر في النهاية إلى عذر اليهود والنصارى والمجوس، وأخذ بعضهم في وقت من الأوقات يتفكه ويتندر فيقول: الأخ كارتر والأخ بيجن والأخ كذا ويذكرون أسماء أناس من الطواغيت والكفار، فيقولون: هم على أساس هذا المنهج إخوة لنا وهم أيضاً معذورون، فهذا الكلام لا محل له؛ لأن هؤلاء الذين يذكرهم الأخ لم يثبت من أحد منهم الإقرار المجمل بالإسلام ولا الالتزام المجمل بالإسلام، فكيف نسويه بمن نطق الشهادتين، وأعلن أنه قابل من حيث الإجمال بتوحيد الألوهية، وقابل بتوحيد الطريق إلى الله وهو الشهادة بأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فهل يستويان؟ هل يستوي هذا مع هذا؟ شتان بينهما، فمن أتى بما يخالف توحيد العبادة أو توحيد الطريق الموصل إلى الله جهلاً بأن هذا يخالف، فواجبك نحوه أن تعلمه الحق، وترده إلى مقتضيات الإقرار المجمل والالتزام المجمل.

إذاً: الجواب على هذه الشبهة التي هي: أن التمادي في قضية العذر بالجهل سوف يصل بنا إلى عذر اليهود والنصارى والمجوس والشيوعيين وغيرهم،

الجواب

أن الإقرار المجمل بالإسلام، والالتزام المجمل بالتوحيد لا عذر فيه بالجهل بالإجماع، فمن لم يشهد لله بالوحدانية، ولمحمد صلى الله عليه وآله وسلم بالرسالة، ولم يبرأ على الجملة من كل دين يخالف دين الإسلام فهذا ليس بمسلم بلا نزاع، سواء كان كافراً جاهلاً أو كافراً معانداً، لكن الذي ثبت له عقد الإسلام يبحث عما إذا كان جاهلاً فلا يحكم عليه بالكفر حتى تقام عليه الحجة.

فليس موضع النزاع في الإيمان المجمل، والتصديق المجمل، والإقرار المجمل بدين الإسلام والبراءة مما خالفه، وإنما النزاع في القضايا التفصيلية لأصل الدين كالدعاء، والنذر، والذبح، والتحاكم إلى شريعة الله وحده، فهذه بعد ثبوت عقد الإسلام بالإقرار المجمل به جملة وعلى الغيب يعذر فيها الجاهل ولا يصار إلى تكفيره بهذا التفريق بين الإجمال والتفصيل، فيسقط الاحتجاج بحال المشركين قبل البعثة، وأن كفرهم لم يتوقف على بيان أو إعذار، فقد خوطبوا من البداية بقوله تبارك وتعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون:١]، لأن هؤلاء قد نقضوا العقد الأول، وانعدم عندهم الالتزام المجمل بالحنيفية ودين إبراهيم عليه السلام.

فالمشركون قبل البعثة لم يوجد لديهم الالتزام المجمل بالتوحيد، أو الإقرار المجمل بدين إبراهيم، بل كان دينهم الذي يدينون به هو تعدد الآلهة، وتوزيع العبادة بينها وبين الله عز وجل، وهذا هو دين آزر وليس هو دين إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، يقول الله تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ * وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ} [الصافات:٣٥ - ٣٦]، فأين هذا من المسلم الذي أقر إقراراً مجملاً بالإسلام وبالانقياد، وإذا قلت له: لماذا تعبد البدوي؟ لماذا تعبد الحسين؟ يقول: لا إله إلا الله أنا لا أعبدهم، الله عز وجل يقول: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [يونس:٦٢]، إلى آخر الحجج المحفوظة والواهية، والتي لا تسول له هذا الفعل، وهو منكر عظيم، ونحن لا نقر بهذا المنكر.

فما من شك أن هناك فرقاً بين من قال الله عز وجل في شأنهم: {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ * وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ} [الصافات:٣٥ - ٣٦]، ويقول عز وجل: {وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ * أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ * وَانطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ * مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلاقٌ} [ص:٤ - ٧] وبين من تلبس بشيء من الشرك من أهل القبلة، فهذا لا يجوز إهداره عند تحرير المسائل وتنقيح المناط، فقياس من دينه الإسلام، واعتقاده المجمل هو التوحيد، وإن خالف مقتضاه في بعض المسائل بجهل أو تأويل قياس مثل هذا على من يكفر بالتوحيد ويكذب المرسلين قياس مع الفارق، ولا يعرف من قال بمثله في تاريخ الأمة إلا الخوارج، فهذا فيما يتعلق بالمأخذ الأول للقائلين بعدم العذر بالجهل في هذه القضية.

المأخذ الثاني: وهو أن التقصير في التعلم يهدر الاحتجاج بالجهل، فمتى وجدت مظنة العلم وتهيأت أسبابه فلا عذر بالجهل، وحيث التبست الأمور أو فترت الشرائع تعين العذر لا محالة.

هذا الكلام في الجملة لا منازعة فيه، لكن لابد أن نفرق في هذا المأخذ بين قضايا الأصول وقضايا الفروع، ولا نهدر اعتبار اختلاف الأزمنة والأمكنة في تصديقه، فأبرز ما يميز هذا المأخذ: عدم التفريق بين القضايا على أساس الأصول والفروع، فينبغي في مسألة العلم وعدم مظنة العلم أو عدم وجودها أنه لا يحصل التفريق بين قضايا الدين على أساس الأصول والفروع، بل على أساس المعلوم من الدين بالضرورة وغيره، أو علم العامة وعلم الخاصة، فالمعلوم من الدين بالضرورة أو علم العامة لا يتعلق بالأصول فحسب، وإنما يتعلق بالأصول والفروع على حد سواء، فمثلاً: من المعلوم من الدين بالضرورة: وجوب الأركان الخمسة في الإسلام، فلا يتصور أبداً أي مسلم يجهل أن الصلاة ركن من أركان الإسلام.

وهكذا تحريم أمهات الفواحش من الزنا وشرب الخمر، هذا من المعلوم بالضرورة من دين الإسلام، وهذا من الفروع، أيضاً الإيمان المجمل بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر من المعلوم من الدين بالضرورة عند المسلمين، كما أن علم الخاصة أو ما سوى المعلوم من الدين بالضرورة لا يتعلق بالفروع فحسب، بل منه ما هو من الفروع، ككثير من أحكام الطلاق والفرائض وغيرها، ومنه ما يتعلق بالأصول ككثير من مسائل الصفات وأحوال الآخرة.

أيضاً: يحصل في هذا الأمر اختلاف باختلاف الأشخاص والأزمنة والأمكنة، فالمعلوم بالضرورة في نطاق العلماء يختلف عما هو كذلك في نطاق العوام وأشباه العوام، فالمعلوم بالضرورة في دائرة العلماء قد يختلف عما هو معلوم بالضرورة عند العوام أو أشباه العوام.

المعلوم بالضرورة في زمان تمكين الدين وقيادة الربانيين يختلف حالة عن المعلوم بالضرورة في أزمنة غربة الدين وقيادة المفسدين وفتور الشرائع، والآن العلماء قائمون بتعليم الناس أركان التوحيد وحدود التوحيد وحقوق العبادة إلى آخر هذه الأشياء، وهناك تفاوت بين بلد وآخر يقوم فيه علماء السوء بتزيين الباطل وخلطه على الناس بلبوس الحق، والدفاع حتى عن مثل هذه الشركيات التي تنافي أصل الدين.

فالمعلوم بالضرورة في دار الإسلام وفي مواقع العلم والعلماء يختلف بالضرورة عن المعلوم بالضرورة في دار الحرب أو البوادي المنعزلة، فعندما نقرر: أنه عند التصديق التفصيلي لقضايا أصل الدين لابد من اعتبار عارض الجهل؛ فإننا لا نقرر ذلك خطة ثابتة مطردة في جميع هذه القضايا، وفي جميع الأشخاص، وفي كافة الأزمنة والأمكنة، وإنما نقرر فقط أن يؤخذ هذا العارض في الاعتبار، فمن كان لاحتمال جهله وجه عذر، ومن لم يكن كذلك لم يعذر، وإنما الذي ينبغي أن نرده بلا تردد هو المأخذ الأول لهذه القضية، وهو الخلط بين الإجمال والتفصيل في قضية أصل الدين، واعتبار كافة المسائل التفصيلية في توحيد العبادة مما لا يثبت عقد الإسلام بادئ ذي بدء إلا باستيفائه، ولا يعذر أحد بجهله، وقد فصلنا الكلام في هذا عند مناقشة المأخذ الأول، هذا فيما يتعلق باعتبار الجهل، ويبقى الكلام في اعتبار التأويل والإكراه.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك.

<<  <  ج: ص:  >  >>