للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[أمثلة لتشريعات الأحبار والرهبان]

قال القرطبي رحمه الله أيضاً: اعلم أن هؤلاء القوم وضعوا لأنفسهم قوانين توافقوا عليها، وارتبطوا بها من غير أن يشهد بصحة تلك القوانين شاهد من التوراة ولا من الإنجيل، فمن خالفها عندهم سموه خارجياً تارة وكافراً أخرى، والخروج عن تلك القوانين هو الذنب عندهم، ثم تلك الذنوب منقسمة إلى ما لا يغفرونه وإلى ما يغفرونه.

ويقول القرطبي: قال لهم بولس: هل رأيتم سارحة تسرح من عند ربها وتخرج إلا من حيث تؤمر به؟ قالوا: لا، قال: فإني أرى الصبح والليل والشمس والقمر والبروج إنما تجيء من هاهنا -يعني: من المشرق- وما أوجب ذلك إلا وهو أحق الوجوه أن يصلى إليه، قالوا: صدقت، فأمرهم أن يستقبلوا القبلة إلى جهة المشرق بهذه الحجة.

ثم قال لهم بعد زمان: رأيت رؤيا، قالوا: هات، فقال لهم: ألستم تزعمون أن الرجل إذا أهدى إلى رجل هدية وأكرمه بالكرامة فردها شق ذلك عليه؟ وإن الله سخر لكم ما في الأرض، وجعل ما في السماء لكم كرامة، فالله أحق ألا ترد عليه كرامته، فما بال بعض الأشياء حرام وبعضها حلال ما بين البقة إلى الفيل حرام؟ قالوا: صدقت! ولهذا تلاحظ أن النصارى لا يسألوا عن حكم أي شيء، هل هذا حلال أو حرام؟ لأنهم أصلاً ليس عندهم شريعة، بعكس هذا الدين الكامل والشريعة الخاتمة التي تحكم الإنسان في كل سلوكه وحياته، فلذلك تجد النصراني المفروض ألا ينزعج إذا حكم بغير دينه، فهذا لا يمسه في قليل ولا كثير؛ لئلا يقع في تصادم بين الواقع الذي يعيشه وبين العقيدة التي يدين بها.

وعكس الحال بالنسبة للمسلم الذي تضبط شريعته كل أحواله وتصرفاته، ولا ينفك الإنسان في حال من الأحوال عن العبودية لله تبارك تعالى، فلذلك المسلم إذا حكم بغير شريعة الله يعيش التناقض المؤلم والواقع المرير الذي يصير عذاباً في عذاب، حيث تكون شريعته تشرق، والنظم الحاكمة بغير الإسلام تغرب، فيعيش في صراع دائم في مواقيت الصلاة في ظهور المنكرات في المجتمع في غير ذلك من النظم واللوائح التي تصادم عقيدته.

فهم لا توجد عندهم شريعة أصلاً حتى يقلقوا أو ينزعجوا، بل كما يقول ابن القيم رحمه الله عز وجل: ما في دين النصارى من الباطل أضعاف ما فيه من الحق، وحقه منسوخ، فما بقي عندهم من خير بعد هذا التحريف.

أيضاً يقول: هذا الذي يدعونه البابا، وهذا فيه شيء من التعظيم لأئمة الكفر، حتى للأسف أحياناً نجد بعض الإخوة تجري على فمهم كلمة (البابا) هذا أبوهم هم، أنت لماذا تقول: بابا؟ فهذا لقب فيه نوع من التعظيم، هو رفيع على أمثاله من الكفار، أما أنت فما ينبغي لك أن تقول هذا، فضلاً عما يحصل من السقطات المذهلة من بعض الناس الذين ينتسبون إلى الدعوة حين يخاطبون هؤلاء بقولهم: قداسة البابا، ونيافة البابا، ليست قداسة بل هي نجاسة وركاسة.

فيقول: قداسة البابا، كيف يكون فيهم قديس؟ كيف نصفه بأنه قديس وهو نجس مشرك، يقول الله عز وجل: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} [التوبة:٢٨]، فكيف أنت تعتقد مثل هذه الأشياء؟! يقول أحد بابواتهم: إن ابن الله -والعياذ بالله- أنشأ الكنيسة بأن جعل الرسول بطرس أول رئيس لها، وإن أساقفة روما ورثوا سلطات بطرس في تسلسل مستمر متصل، ولذلك فإن البابا ممثل الله على ظهر الأرض، ويجب أن تكون له السيادة العليا والسلطان الأعظم على جميع المسيحيين حكاماً كانوا أو محكومين.

فهذا معنى اتخاذ الأحبار والرهبان، فقد كان له علاقة وثيقة بالاعتقاد، وليس مجرد قبول التشريع، فإنهم أعطوا هؤلاء الأحبار والرهبان سلطات التحليل والتحريم وإن خالفت ما يعلمونه قطعاً من شريعة الله عز وجل؛ فبالتالي لا ينبغي النظر فقط إلى جانب قبول الأحكام منهم، لكن هذا وراؤه أمر اعتقادي، وهو إعطاؤهم حق التشريع والتحليل والتحريم.

<<  <  ج: ص:  >  >>